الثلاثاء، 2 أغسطس 2022

 في رحاب الخليل وديوانه : خواطر ومشاعر

نشر في صحيفة الصحافة السودانية  يوم 14 - 05 - 2013


قبل عامين وفي مثل هذه الايام، رحل عن دنيانا الزائلة، خليل عجب الدور الهواري، هكذا كتب اسمه بجوار صورته بالجلابية والعمامة البيضاء ، متدثرا بالعباءة السوداء، والعصا على يده، على غلاف ديوان شعره «خواطر ومشاعر» الذي فرح برؤيته قبل الوداع، رحل خليل الشاعر ، ابن القضارف ومحبها ، المزارع الكادح البسيط، عرفته قبل أن أراه، وأنا أردد لجدي (الفكي البشير) القصيدة التي ألفها ألفها جدي- في مدح قرشي محمد حسن احتفاء بجمع قرشي للمديح النبوي السوداني في مجلدات وحفظ هذا التراث، كان جدي رحمه الله يستمتع بان نقرأ له هذه القصيدة التي ذكر فيها جميع شعراء المديح النبوي، وما زلت أذكر بعض ما جاء فيها « والماحي ما دخل الخلاوي مطلقا أعجب له إذ بذ للأقرانا...» «وحياتي من احيا القلوب بمدحه.....» ، وجاء في القصيدة ذكر الخليل « خليل عجب الدور عل مقامه حتى ينال محبة الرحمانا» ، وألتقيت بعجب الدور، فكان فوق ما يتصوره المرء من بساطة وطيبة قلب . وقبل أعوام قلائل احتفيت ككل من يعرفه بصدور ديوانه ، الذي تأخر كثيرا، أقلب صفحاته من حين إلى حين، فاجد في هذه الصفحات المؤانسة والحكمة والمتعة والطرافة، أجد خليلا والقضارف والزراعة والسودان، أجد الإنسان السوداني غير المتكلف ، ولكنه مترفع عن دنايا الأمور وسفاسفها ، إنها (خواطر ومشاعر) تستحق التوقف عندها فكانت هذه الكلمات.إذا الشعر لم يلهب شعورا ولم تكن تغني بآمال الشعوب قوافيهوإن هو لا يدعو لكل فضيلة فلا خير في الأوقات نصرفها فيهبهذه الأبيات يختصر علينا الأستاذ خليل محمد عجب الدور رسالة ديوانه الجميل «خواطر ومشاعر» يمتعنا فيه من خلال قرابة الثلاثمائة صفحة بأنواع من الشعر الذي لا يمل، أولا: لرسالته الهادفة، وثانيا: لطرافته المبهجة، والتي تنتزع عنك الإبتسامة إنتزاعا.قدم للديوان الأديب الشاعر، مصطفى طيب الأسماء، حياه من خلالها تحية شعرية وشهد له بالنبوغ الشعري والإستقلالية، وقدم له الأستاذ مصطفى سند « هذا ليس ديوان شعر فقط يكتبه شاعر كبير مقتدر، ولكنه رحلة عمر إنسان ممتلئ العقل والوجدان بالعلم والعاطفة ...استطاع أن يعبر عن تضاريسها ومنعرجاتها ولحظات فرجها وضيقها، وعلوها وإنحدارها بفنية رائعة وبيان رفيع ممتاز يصدر عن طبع أصيل، وعن معدن نفيس، وعن نفس كبيرة متوهجة متوثبة» ثم جاءت مقدمة الدكتور عبد الله الطيب رحمه الله، وصف فيها اسلوب خليل بانه «السهل الممتنع الذي يندع ويتدفق من صفاء السجية ووضوح الرؤية النفسية» ووصف الديوان بأنه « الحلو الخفيف الروح» وأنه مزيج من «الفكاهة والعاطفة والفكر الحصيف».يقع الديوان في ثمانية أبواب تدخل من الباب الأول فتجد الحماسة العالية والفخر من خلال القصائد الوطنية، يندب خليل من خلالها إلى نبذ الفرقة والشتات ويحض على حماية الوطن بالغالي والنفيس. وأنت في ذروة الإنفعال العاطف، إن ولجت إلى الباب الثاني «بيني وبين القضارف» تجد نفسك في عالم جديد كأنك ترتاح بعد أن أديت مباراة رياضية ، اسمع الإستاذ خليل يناديك في قصيدته « قضارفنا» :ألا فانظر لها شرقا وغربا وقل يا حبذا بلد الزراعةألم تر أن هاتيك اللواري تروح وتغتدي في كل ساعةمحملة تنؤ بما عليها من المحصول والشحن المباعةوأسواقا هنالك كل يوم صباح مساء تزخر بالبضاعةألا ياراكبا في (البص) فانزل تريث في القضارف نصف ساعة!!وابتداء من هذا الباب تتجلى عبقرية خليل في مزج العامية بالفصحي بحيث يكون النظم في غاية الطرافة و»السودانوية» ولكن كل ذلك ليس على حساب المعاني الرفيعة التي يوردها لك وأنت في قمة الإحساس بفكاهة النص وطرافته، يقول:يا حبذا (لقمة) في الصبح دافئة ألذ في الأكل من (قراصة الفيني) !لها بخار زكي كالدعاش به تزيد طعما، ونفعا للمصاربنملاحها: (ويكة لا يوقة) معه حبات ملح مرير الطعم مسحونوقطعة من (كجيك) فيه فائدة لمن شكا الضعف أو نقص الفتامينهذا الملاح اللذيذ الطعم تصنعه عمالنا الغبش في كل الأحايينيا عاملا بات طول الليل من وسخ في الجسم مكتئبا في ذلك الحينسواد جسمك يا هذا أحب لنا من كل لون غريب غير مأمونولعل البيت الاخير لا يحتاج إلى تعليق، فهو يغني عن دروس في الوطنية.ويفتح خليل الباب الثالث بصورة أوسع لتدخل مدن وأوطان غير القضارف، فتجد كسلا نصيبا في أكثر من قصيدة، وتجد مجالا لكردفان وأم درمان والبادية، بل وخارج السودان إلى سوريا وأرض الشام. وستجد نفسك وانت تقرأ بعض الأبيات قد رجعت مع الشاعر إلى عهد الصبا والأيام الجميلة التي عشتها طفلا، فتعمر ليلك ونهارك بالألعاب الجماعية:إذا قذف (الشليل) وغاب عنا شغلن وراءه منا العقولسلوني عن (شليل) إن جهلتم شليلا، واسمعوا لي ما أقولشليل عظم شاة أو بعير سليب اللحم أبيض مستطيلنسر به طوال الليل حتى يكاد النجم يشمله الأفولإذا انتظمت بنا في الليل (شدت) وضؤ البدر منتشر جميلسمعت صياحنا ورأيت قفزا غبارا تحت أرجلنا يجولوما (شدت) سوى وثبات قوم هم لله درهم فحول!!وتستمع إلى أصوات لطالما سمعتها من حولك ومع ذلك تفاجئك وأنت تقراها شعرا ، ولكنها في شعر خليل تتعايش مع الشعر في صداقة وإلفة:تهاجمها الكلاب ضحى فتجري .... ونحن وراءها (اش اش) نقول !!!ويقول:وذو القمصان عيش الريف دوما على الكانون نسمعه يقول(ططق طق) متفجرا كمفرقعات (تتش تش) كالشحم لكن لا يسيلومن باب إلى باب ننتقل إلى الحكم التي تمثلها ستة وعشرين قصيدة، تتفاوت المعاني التي تتناولها بين صفات الناس وتباينها، والشكوى من ندرة الصديق الوفي، إلى الحديث عن وصف الدنيا والنصح بفضائل الأخلاق ومكارمها، وفي بعض القصائد نجد مجاراة لشعراء آخرين أمثال الإمام الشافعي، والمتنبئ. وهو في قصائده هذه نجده متلمسا مشكلات الواقع قريبا منها يقول في قصيدة «أقلهن مهرا»:وكم رجل هنا تربت يداه ولم يعرف له أبدا مصيريحن إلى الزواج حنين إبل عطاش في الفلاة لها مرورولا حوض هنالك فيه ماء له تسعى لتشرب أو حفيروينظر للحسان بكل شوق وهل طير بلا ريش يطير؟وكم بنت جنت أم عليها هنا في الحي والدها فقيرابت ألا تزوجها عنادا وقد مضت الليالي والشهورأضرت بنتها ضررا تمادى تحس به له طعم مريرتؤمل أن يجئ لها خطيب حقائبه بها مال وفيرألا يا أيها الآباء إني لكم انتم جميعكم أشيرفكل فتية لكم احفظوها فصون العرض فيه لكم اجورولو بلغت سريعا زوجوها فإن بقاءها بكرا خطيروإن زادت عن العشرين عشرا... فبعدئذٍ لو انتظرت: تبور!وفي قصائد أخرى له تأملات في قضايا المعاش والمعاد، يقول في قصيدة «أليس كذلك؟»:يقرأ الإنسان كي ينتفعا مثلما يأكل حتى يشبعاكم أكول مالئ أمعاءه بطعام منه لم يقتنعاوهو محتاج إلى معرفة لم يكن من دونها منتفعافإن خرجت من الباب الرابع، فدونك باب «القصائد الدينية» ومعظم شعر هذا الباب من أشعار المناسبات فهو يتناول المولد النبوي الشريف في أكثر من قصيدة، وعيد الفداء، والإحتفاء بشهر رمضان أكثر من مرة، والهجرة النبوية، ولم تخل من المناسبة إلا ثلاث قصائد من اثنتي عشرة قصيدة يحتويها الباب وهي قصائد (عليكم بالقرآن) ، و (خلوة القرآن) و (في مدح خير البرية) ، وهو في هذه القصائد لا يتناول هذه المناسبات تناولا سطحيا، بل يذهب إلى العمق ويستخلص الدروس والعبر، وينظر إلى حال الامة اليوم فيخاطبها حاثا لها على العودة إلى دينها ليعود ماضيها المشرق، يقول في قصيدته: تحية إلى شهر المحرم:حياتهم كانت جهادا وغيرة على الدين والاخلاق والعرض والحمىمضو وبنوهم أصبحوا في ديارهم يعانون ظلما سيئ الطعم علقماأضر بهم داء التفرق حقبة وما التاموا حتى غدا الجو مظلماوحتى غدت مابين يوم وليلة فلسطين بركانا عنيفا تضرمافيا أخوة الإسلام بالله خلصوا دياركم من غاصب سفك الدماومن هان في وجه العدو فإنه يعيش ذليلا حاني الراس مرغماوفي باب (في الحروب) يتضح حب الشاعر للسلام وكراهيته للحرب حتى انه يتمنى أن تثور الرياح وتنبعث البراكين لتحطم كل الاسلحة التي صنعت لتدمير الناس، حتى يعيش الناس في أمان يقول في قصيدته (الحروب الإستعمارية) مصورا مآلات الحروب:كم قلوب خائفات وعيون ساهراتودموع في مساء وصباح ذارفاتوعداء كل يوم وقتال ومماتوأنين مستمر من جروح دامياتكل هذا من حروب: كدرت وجه الحياةإلا أن هذا الموقف من الحرب لا يعني لدى شاعرنا الخنوع والتبعية، يقول في قصيدته (على الأرض ظلم):يريدون منا أن نكون جميعنا ذيولا وأن الذيل للرأس تابعوهيهات بل هيهات في كل مرة نكررها كيما تصيخ المسامعفاللدين والأعراض والأرض حرمة بأرواحنا عنها جميعا ندافعأما أكبر أبواب الديوان فهو الباب السابع (متفرقات) الذي يضم ثماني وأربعين قصيدة متفرقة فيي ميادين الأدب والحث على التعلم والحديث عن الجمال ووصف المناظر الطبيعية الخلابة، وفيها أيضا قصائد مناسبات والرحلات المشاهدات. يقول في قصيدة (الجمال):وأحب هبات النسيم عليلة في الصبح أو في ساعة الاسحارويسر قلبي حين القى صاحبا زين الخصائل عاد من أسفاروأحب قرص الشمس تلقي ضوؤها الذهبي فوق شواطئ الانهارقل للذي عشق الجمال لذاته في كل غانية من الابكارإن الجمال هو الحياء يزينه الخلق الكريم السمح باستمراروسلامة العرض النزيه وحفظه من كل مايزري من الأوزارويلفت انتباهنا في قصيدته (أبولو) نظرته غير المسبوقة والتي لا تخلو من سخرية من مكتشفي القمر، وكأنه يشير إلى أن كشوفاتهم الجغرافية على الأرض كان هدفها الاول استغلال ثروات الشعوب وإذلالها واحتلالها، يقول:ماذا تريدون من بدر السماء فهل هناك في البدر ارض تنتج الذهبا؟وهل هناك مناخ مابه كدر لمن شكا الهم في دنياه والتعبا؟وهل يريدون ان تبنى القصور به ويغرسون به الرمان والعنبا؟أم انهم جزعوا من كيد بعضهم في الأرض فانطلقوا نحو السما هربا؟إني أقول لهم: عودوا إلى وطن عاش الأوائل فيه قبلكم حقباتحيون فيه، وإن متم فلست أرى لكم سوى الأرض عند الموت منقلباولا يخلو هذا الباب من القصائد خفيفة الظل مثل أرجوزة (حديقة الحيوان) وهي تصلح للأطفال ، وقصيدة (أمزجة) ، و (أبو لمبة) و (الحرباء) و (وصف لالوبة) وقصيدة (الكابوس) التي يقول فيها:إذا ما جاءك الكابوس عند النوم كالجنأو الثور الكبير الحجم جاءك رافع القرنأو الصل الخبيث السم منسابا على البطناو الكلب العقور جرى وراءك غير مستأنوكشر غاضبا وبقيت في خوف وفي حزنشتشعر أن رأسك مثل ثقل الصخر في الوزنوجيب القلب تسمعه شديدا داخل الأذنستطلق صيحة كبرى ... وهذا أغلب الظن!!وفي الباب الأخير (إخوانيات) يدون الأستاذ خليل مشاعره نحو ستة عشر من أصدقائه وأحبابه منهم الدكتور عبد الله الطيب، والشيخ عبد الرحيم البرعي، ومولانا: محمد حمد أبوسن، والأستاذ حسن نجيلة، وغيرهم ، وهو يشاغبهم حينا بأسلوبه الظريف الماتع.ما بعد القراءةطبع ديوان «خواطر ومشاعر» عام 2002 نشر وزارة التربية والتعليم ولاية القضارف والملاحظ كثرة الاخطاء الطباعية والإملائية حتى لا تكاد صفحة تخلو من هذه الاخطاء. والسيرة الذاتية للشاعر ناقصة وقفت بالقارئ عند العام 1936 والشاعر طالب في المعهد العلمي بأم درمان.ولكن مع ذلك فقد حققت هذه الطبعة امنية الشاعر رحمه الله برؤية ديوانه قبل موته، ولئن سنحت لك سانحة وسمعت من خليل قصة جهده ومجهوده ليرى كلماته هذه مطبوعة، وكيف اخذ منه أحد الناشرين ديوانه الأول قبل سنين عددا ثم أضاعه، لأنتقلت لك حالة الحسرة والالم الذي انتابه وما زال ، لم يخففهما إلا رؤية ديوانه الذي لملم أشعاره من هنا وهناك، ولا شك أن هناك الكثير والكثير مما لم ينشر من شعر عجب الدور.ولخليل عليه الرحمة أسلوب ماتع في إلقاء شعره، ولئن جلست في أحد دواوين القضارف التي تحتفي بخليل وتفرح بوجوده، لرايت كيف يلقي درره الشعرية ولرايت عيون خليل وهي تتوسع حينا وتنقبض حينا، ولشاهدت ابتسامته مع مداعباته الشعرية، ولأبصرت الشعر يتحول إلى كيان نابض بالحياة، وهو يلقي إليك أثناء هذه المسرحية الإلقائية ومضات من قواعد النحو والبلاغة، ولولا أن لخليل حياء مميز لقلنا أن تلفزيون القضارف قد فرط في أن يسجل حلقات ممتدة مع خليل ، لن يملها الناس أبدا ولو ألقى عليهم الديوان كله.رحم الله خليل عجب الدور الهواري واحسن إليه، وهو الذي قد ذكَر نفسه فأجاد تذكيرها عندما قال:يا نفس لا تجهلي ، كوني على ثقة لكل عمر وأيم الله إنهاءإن أخلص المرء في السعي الكريم يكن بعد الممات له بالذكر إحياء