الثلاثاء، 2 أغسطس 2022

 في رحاب الخليل وديوانه : خواطر ومشاعر

نشر في صحيفة الصحافة السودانية  يوم 14 - 05 - 2013


قبل عامين وفي مثل هذه الايام، رحل عن دنيانا الزائلة، خليل عجب الدور الهواري، هكذا كتب اسمه بجوار صورته بالجلابية والعمامة البيضاء ، متدثرا بالعباءة السوداء، والعصا على يده، على غلاف ديوان شعره «خواطر ومشاعر» الذي فرح برؤيته قبل الوداع، رحل خليل الشاعر ، ابن القضارف ومحبها ، المزارع الكادح البسيط، عرفته قبل أن أراه، وأنا أردد لجدي (الفكي البشير) القصيدة التي ألفها ألفها جدي- في مدح قرشي محمد حسن احتفاء بجمع قرشي للمديح النبوي السوداني في مجلدات وحفظ هذا التراث، كان جدي رحمه الله يستمتع بان نقرأ له هذه القصيدة التي ذكر فيها جميع شعراء المديح النبوي، وما زلت أذكر بعض ما جاء فيها « والماحي ما دخل الخلاوي مطلقا أعجب له إذ بذ للأقرانا...» «وحياتي من احيا القلوب بمدحه.....» ، وجاء في القصيدة ذكر الخليل « خليل عجب الدور عل مقامه حتى ينال محبة الرحمانا» ، وألتقيت بعجب الدور، فكان فوق ما يتصوره المرء من بساطة وطيبة قلب . وقبل أعوام قلائل احتفيت ككل من يعرفه بصدور ديوانه ، الذي تأخر كثيرا، أقلب صفحاته من حين إلى حين، فاجد في هذه الصفحات المؤانسة والحكمة والمتعة والطرافة، أجد خليلا والقضارف والزراعة والسودان، أجد الإنسان السوداني غير المتكلف ، ولكنه مترفع عن دنايا الأمور وسفاسفها ، إنها (خواطر ومشاعر) تستحق التوقف عندها فكانت هذه الكلمات.إذا الشعر لم يلهب شعورا ولم تكن تغني بآمال الشعوب قوافيهوإن هو لا يدعو لكل فضيلة فلا خير في الأوقات نصرفها فيهبهذه الأبيات يختصر علينا الأستاذ خليل محمد عجب الدور رسالة ديوانه الجميل «خواطر ومشاعر» يمتعنا فيه من خلال قرابة الثلاثمائة صفحة بأنواع من الشعر الذي لا يمل، أولا: لرسالته الهادفة، وثانيا: لطرافته المبهجة، والتي تنتزع عنك الإبتسامة إنتزاعا.قدم للديوان الأديب الشاعر، مصطفى طيب الأسماء، حياه من خلالها تحية شعرية وشهد له بالنبوغ الشعري والإستقلالية، وقدم له الأستاذ مصطفى سند « هذا ليس ديوان شعر فقط يكتبه شاعر كبير مقتدر، ولكنه رحلة عمر إنسان ممتلئ العقل والوجدان بالعلم والعاطفة ...استطاع أن يعبر عن تضاريسها ومنعرجاتها ولحظات فرجها وضيقها، وعلوها وإنحدارها بفنية رائعة وبيان رفيع ممتاز يصدر عن طبع أصيل، وعن معدن نفيس، وعن نفس كبيرة متوهجة متوثبة» ثم جاءت مقدمة الدكتور عبد الله الطيب رحمه الله، وصف فيها اسلوب خليل بانه «السهل الممتنع الذي يندع ويتدفق من صفاء السجية ووضوح الرؤية النفسية» ووصف الديوان بأنه « الحلو الخفيف الروح» وأنه مزيج من «الفكاهة والعاطفة والفكر الحصيف».يقع الديوان في ثمانية أبواب تدخل من الباب الأول فتجد الحماسة العالية والفخر من خلال القصائد الوطنية، يندب خليل من خلالها إلى نبذ الفرقة والشتات ويحض على حماية الوطن بالغالي والنفيس. وأنت في ذروة الإنفعال العاطف، إن ولجت إلى الباب الثاني «بيني وبين القضارف» تجد نفسك في عالم جديد كأنك ترتاح بعد أن أديت مباراة رياضية ، اسمع الإستاذ خليل يناديك في قصيدته « قضارفنا» :ألا فانظر لها شرقا وغربا وقل يا حبذا بلد الزراعةألم تر أن هاتيك اللواري تروح وتغتدي في كل ساعةمحملة تنؤ بما عليها من المحصول والشحن المباعةوأسواقا هنالك كل يوم صباح مساء تزخر بالبضاعةألا ياراكبا في (البص) فانزل تريث في القضارف نصف ساعة!!وابتداء من هذا الباب تتجلى عبقرية خليل في مزج العامية بالفصحي بحيث يكون النظم في غاية الطرافة و»السودانوية» ولكن كل ذلك ليس على حساب المعاني الرفيعة التي يوردها لك وأنت في قمة الإحساس بفكاهة النص وطرافته، يقول:يا حبذا (لقمة) في الصبح دافئة ألذ في الأكل من (قراصة الفيني) !لها بخار زكي كالدعاش به تزيد طعما، ونفعا للمصاربنملاحها: (ويكة لا يوقة) معه حبات ملح مرير الطعم مسحونوقطعة من (كجيك) فيه فائدة لمن شكا الضعف أو نقص الفتامينهذا الملاح اللذيذ الطعم تصنعه عمالنا الغبش في كل الأحايينيا عاملا بات طول الليل من وسخ في الجسم مكتئبا في ذلك الحينسواد جسمك يا هذا أحب لنا من كل لون غريب غير مأمونولعل البيت الاخير لا يحتاج إلى تعليق، فهو يغني عن دروس في الوطنية.ويفتح خليل الباب الثالث بصورة أوسع لتدخل مدن وأوطان غير القضارف، فتجد كسلا نصيبا في أكثر من قصيدة، وتجد مجالا لكردفان وأم درمان والبادية، بل وخارج السودان إلى سوريا وأرض الشام. وستجد نفسك وانت تقرأ بعض الأبيات قد رجعت مع الشاعر إلى عهد الصبا والأيام الجميلة التي عشتها طفلا، فتعمر ليلك ونهارك بالألعاب الجماعية:إذا قذف (الشليل) وغاب عنا شغلن وراءه منا العقولسلوني عن (شليل) إن جهلتم شليلا، واسمعوا لي ما أقولشليل عظم شاة أو بعير سليب اللحم أبيض مستطيلنسر به طوال الليل حتى يكاد النجم يشمله الأفولإذا انتظمت بنا في الليل (شدت) وضؤ البدر منتشر جميلسمعت صياحنا ورأيت قفزا غبارا تحت أرجلنا يجولوما (شدت) سوى وثبات قوم هم لله درهم فحول!!وتستمع إلى أصوات لطالما سمعتها من حولك ومع ذلك تفاجئك وأنت تقراها شعرا ، ولكنها في شعر خليل تتعايش مع الشعر في صداقة وإلفة:تهاجمها الكلاب ضحى فتجري .... ونحن وراءها (اش اش) نقول !!!ويقول:وذو القمصان عيش الريف دوما على الكانون نسمعه يقول(ططق طق) متفجرا كمفرقعات (تتش تش) كالشحم لكن لا يسيلومن باب إلى باب ننتقل إلى الحكم التي تمثلها ستة وعشرين قصيدة، تتفاوت المعاني التي تتناولها بين صفات الناس وتباينها، والشكوى من ندرة الصديق الوفي، إلى الحديث عن وصف الدنيا والنصح بفضائل الأخلاق ومكارمها، وفي بعض القصائد نجد مجاراة لشعراء آخرين أمثال الإمام الشافعي، والمتنبئ. وهو في قصائده هذه نجده متلمسا مشكلات الواقع قريبا منها يقول في قصيدة «أقلهن مهرا»:وكم رجل هنا تربت يداه ولم يعرف له أبدا مصيريحن إلى الزواج حنين إبل عطاش في الفلاة لها مرورولا حوض هنالك فيه ماء له تسعى لتشرب أو حفيروينظر للحسان بكل شوق وهل طير بلا ريش يطير؟وكم بنت جنت أم عليها هنا في الحي والدها فقيرابت ألا تزوجها عنادا وقد مضت الليالي والشهورأضرت بنتها ضررا تمادى تحس به له طعم مريرتؤمل أن يجئ لها خطيب حقائبه بها مال وفيرألا يا أيها الآباء إني لكم انتم جميعكم أشيرفكل فتية لكم احفظوها فصون العرض فيه لكم اجورولو بلغت سريعا زوجوها فإن بقاءها بكرا خطيروإن زادت عن العشرين عشرا... فبعدئذٍ لو انتظرت: تبور!وفي قصائد أخرى له تأملات في قضايا المعاش والمعاد، يقول في قصيدة «أليس كذلك؟»:يقرأ الإنسان كي ينتفعا مثلما يأكل حتى يشبعاكم أكول مالئ أمعاءه بطعام منه لم يقتنعاوهو محتاج إلى معرفة لم يكن من دونها منتفعافإن خرجت من الباب الرابع، فدونك باب «القصائد الدينية» ومعظم شعر هذا الباب من أشعار المناسبات فهو يتناول المولد النبوي الشريف في أكثر من قصيدة، وعيد الفداء، والإحتفاء بشهر رمضان أكثر من مرة، والهجرة النبوية، ولم تخل من المناسبة إلا ثلاث قصائد من اثنتي عشرة قصيدة يحتويها الباب وهي قصائد (عليكم بالقرآن) ، و (خلوة القرآن) و (في مدح خير البرية) ، وهو في هذه القصائد لا يتناول هذه المناسبات تناولا سطحيا، بل يذهب إلى العمق ويستخلص الدروس والعبر، وينظر إلى حال الامة اليوم فيخاطبها حاثا لها على العودة إلى دينها ليعود ماضيها المشرق، يقول في قصيدته: تحية إلى شهر المحرم:حياتهم كانت جهادا وغيرة على الدين والاخلاق والعرض والحمىمضو وبنوهم أصبحوا في ديارهم يعانون ظلما سيئ الطعم علقماأضر بهم داء التفرق حقبة وما التاموا حتى غدا الجو مظلماوحتى غدت مابين يوم وليلة فلسطين بركانا عنيفا تضرمافيا أخوة الإسلام بالله خلصوا دياركم من غاصب سفك الدماومن هان في وجه العدو فإنه يعيش ذليلا حاني الراس مرغماوفي باب (في الحروب) يتضح حب الشاعر للسلام وكراهيته للحرب حتى انه يتمنى أن تثور الرياح وتنبعث البراكين لتحطم كل الاسلحة التي صنعت لتدمير الناس، حتى يعيش الناس في أمان يقول في قصيدته (الحروب الإستعمارية) مصورا مآلات الحروب:كم قلوب خائفات وعيون ساهراتودموع في مساء وصباح ذارفاتوعداء كل يوم وقتال ومماتوأنين مستمر من جروح دامياتكل هذا من حروب: كدرت وجه الحياةإلا أن هذا الموقف من الحرب لا يعني لدى شاعرنا الخنوع والتبعية، يقول في قصيدته (على الأرض ظلم):يريدون منا أن نكون جميعنا ذيولا وأن الذيل للرأس تابعوهيهات بل هيهات في كل مرة نكررها كيما تصيخ المسامعفاللدين والأعراض والأرض حرمة بأرواحنا عنها جميعا ندافعأما أكبر أبواب الديوان فهو الباب السابع (متفرقات) الذي يضم ثماني وأربعين قصيدة متفرقة فيي ميادين الأدب والحث على التعلم والحديث عن الجمال ووصف المناظر الطبيعية الخلابة، وفيها أيضا قصائد مناسبات والرحلات المشاهدات. يقول في قصيدة (الجمال):وأحب هبات النسيم عليلة في الصبح أو في ساعة الاسحارويسر قلبي حين القى صاحبا زين الخصائل عاد من أسفاروأحب قرص الشمس تلقي ضوؤها الذهبي فوق شواطئ الانهارقل للذي عشق الجمال لذاته في كل غانية من الابكارإن الجمال هو الحياء يزينه الخلق الكريم السمح باستمراروسلامة العرض النزيه وحفظه من كل مايزري من الأوزارويلفت انتباهنا في قصيدته (أبولو) نظرته غير المسبوقة والتي لا تخلو من سخرية من مكتشفي القمر، وكأنه يشير إلى أن كشوفاتهم الجغرافية على الأرض كان هدفها الاول استغلال ثروات الشعوب وإذلالها واحتلالها، يقول:ماذا تريدون من بدر السماء فهل هناك في البدر ارض تنتج الذهبا؟وهل هناك مناخ مابه كدر لمن شكا الهم في دنياه والتعبا؟وهل يريدون ان تبنى القصور به ويغرسون به الرمان والعنبا؟أم انهم جزعوا من كيد بعضهم في الأرض فانطلقوا نحو السما هربا؟إني أقول لهم: عودوا إلى وطن عاش الأوائل فيه قبلكم حقباتحيون فيه، وإن متم فلست أرى لكم سوى الأرض عند الموت منقلباولا يخلو هذا الباب من القصائد خفيفة الظل مثل أرجوزة (حديقة الحيوان) وهي تصلح للأطفال ، وقصيدة (أمزجة) ، و (أبو لمبة) و (الحرباء) و (وصف لالوبة) وقصيدة (الكابوس) التي يقول فيها:إذا ما جاءك الكابوس عند النوم كالجنأو الثور الكبير الحجم جاءك رافع القرنأو الصل الخبيث السم منسابا على البطناو الكلب العقور جرى وراءك غير مستأنوكشر غاضبا وبقيت في خوف وفي حزنشتشعر أن رأسك مثل ثقل الصخر في الوزنوجيب القلب تسمعه شديدا داخل الأذنستطلق صيحة كبرى ... وهذا أغلب الظن!!وفي الباب الأخير (إخوانيات) يدون الأستاذ خليل مشاعره نحو ستة عشر من أصدقائه وأحبابه منهم الدكتور عبد الله الطيب، والشيخ عبد الرحيم البرعي، ومولانا: محمد حمد أبوسن، والأستاذ حسن نجيلة، وغيرهم ، وهو يشاغبهم حينا بأسلوبه الظريف الماتع.ما بعد القراءةطبع ديوان «خواطر ومشاعر» عام 2002 نشر وزارة التربية والتعليم ولاية القضارف والملاحظ كثرة الاخطاء الطباعية والإملائية حتى لا تكاد صفحة تخلو من هذه الاخطاء. والسيرة الذاتية للشاعر ناقصة وقفت بالقارئ عند العام 1936 والشاعر طالب في المعهد العلمي بأم درمان.ولكن مع ذلك فقد حققت هذه الطبعة امنية الشاعر رحمه الله برؤية ديوانه قبل موته، ولئن سنحت لك سانحة وسمعت من خليل قصة جهده ومجهوده ليرى كلماته هذه مطبوعة، وكيف اخذ منه أحد الناشرين ديوانه الأول قبل سنين عددا ثم أضاعه، لأنتقلت لك حالة الحسرة والالم الذي انتابه وما زال ، لم يخففهما إلا رؤية ديوانه الذي لملم أشعاره من هنا وهناك، ولا شك أن هناك الكثير والكثير مما لم ينشر من شعر عجب الدور.ولخليل عليه الرحمة أسلوب ماتع في إلقاء شعره، ولئن جلست في أحد دواوين القضارف التي تحتفي بخليل وتفرح بوجوده، لرايت كيف يلقي درره الشعرية ولرايت عيون خليل وهي تتوسع حينا وتنقبض حينا، ولشاهدت ابتسامته مع مداعباته الشعرية، ولأبصرت الشعر يتحول إلى كيان نابض بالحياة، وهو يلقي إليك أثناء هذه المسرحية الإلقائية ومضات من قواعد النحو والبلاغة، ولولا أن لخليل حياء مميز لقلنا أن تلفزيون القضارف قد فرط في أن يسجل حلقات ممتدة مع خليل ، لن يملها الناس أبدا ولو ألقى عليهم الديوان كله.رحم الله خليل عجب الدور الهواري واحسن إليه، وهو الذي قد ذكَر نفسه فأجاد تذكيرها عندما قال:يا نفس لا تجهلي ، كوني على ثقة لكل عمر وأيم الله إنهاءإن أخلص المرء في السعي الكريم يكن بعد الممات له بالذكر إحياء

الثلاثاء، 11 يناير 2022

 «السيد» الذي ينظر بعين «الصلاح»

نشر في الصحافة يوم 18 - 06 - 2013

: بعض النصوص يقرأها المرء فيحس بالمتعة والنشوة والروعة، وقد تفرض عليه فرضاً أن يقرأها مرات ومرات، ثم يحتفظ بها من أجل أن يعاود مطالعتها من حين لآخر، فيجدد بقراءتها ذات الإحساس الرائع. وانتابني هذا الإحساس وأنا أطلع على رائعة الأستاذ صلاح أحمد إبراهيم «نحن والردى» لأول مرة، في عدد من مجلة «الخرطوم» الصادر في 1994م، فقمت بكتابتها اولاً في كراسة المختارات فوجدتها درة هذه المختارات التي حوت اشعار القدماء والمعاصرين، وأسرتني بفلسفتها ومعانيها العميقة، والجرس الرنان الذي يحرص عليه صلاح في معظم أشعاره، رحمه الله.
النص الآخر الذي تتطرق إليه هذه الكلمات هو نص عرف بعنوان «أفراح الروح»، اما الكاتب فهو الأستاذ الأديب سيد قطب رحمه الله. وقد اشتهر هذا النص بأنه رسالة كتبها إلى اخته «أمينة»، إلا أن الدكتور صلاح الخالدي أكد من خلال تقديمه لهذا النص أنه عبارة عن مقتطفات من رسائل عدة، بعث بها سيد إبان بعثته إلى امريكا في عام 1984م إلى اخوانه واصدقائه في مصر، ووجدت أول فرصة لها للنشر في عام 1959م بمجلة «الفكر» التونسية تحت عنوان اختارته المجلة التونسية وهو «أضواء من بعيد» ثم اختارت دور النشر التي توالت في طبعها بعد ذلك أن تعيد طباعتها تحت عنوان «أفراح الروح»، وبهذا الإسم اشتهرت وعرفت بين الناس. وقد قرأت هذا النص مرات ومرات، فهو أهل لذلك بما حوى من فكر سامق باسلوب «سيد» المتفرد. وقد لاحظت كلما عاودت قراءة نص سيد أنني اتذكر شيئاً من كلمات صلاح، وأنني كلما قرأت من أبيات «نحن والردى» استرجع طرفاً من «أفراح الروح»، ولاحظت بلا عناء ولا اجتهاد أن التشابه بين هذين العملين العظيمين جد كبير، يكاد ينطبق عليه قول «النجاشي» وهو يصف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به عيسى عليه السلام بأنهما «يخرجان من مشكاة واحدة». وما اخال مشكاة «سيد» و «صلاح» إلا البصيرة الثاقبة.
وفي السطور التالية تجد كلمات سيد قطب تليها أبيات صلاح، ولم أتدخل في هذه النصوص إلا بوضع بعض العناوين الجانبية، ولم أزد أي شرح أو تفسير حتى لا أفسد متعة هذه النصوص، إلا ما كان في الفقرة الأولى من إضافة كلمات للدكتور عبد الله الطيب وجدتها في تقديمه الرائع لديوان صلاح، وأترك للقارئ أجر الاجتهاد في مراجعة كل فقرة، بقراءة أفكار الكاتبين ومراجعة أسلوبيهما في التعبير عن هذه الأفكار ومقارنة كل نص بالآخر، وإني لأرجو أن يجد ما وجدت من روعة وامتاع.
1/ مت لأجلها.. ستحيا فكرتك
يقول سيد:
كل فكرة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان!! أما الأفكار التي لم تُطْعَمْ هذا الغذاء المقدّس، فقد وُلدت ميتة، ولم تدفع بالبشرية شبراً واحداً إلى الأمام!!
واشتهرت عن سيد كلمات أخرى وردت في غير هذا النص تفيد هذا المعنى، وهي كلماته الرائعة «إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح.. ومشت فيها الحياة»
يقول صلاح:
يا ذكيَّ العودِ بالمطرقةِ الصمّاءِ والفأسِ تشظّى
وبنيرانٍ لها ألفُ لسانٍ قد تلظّى
ضُعْ على ضوئِك في الناس اصطباراً ومآثْر
مثلما ضوَّعَ في الأهوال صبَراً آلُ «ياسر»
فلئن كنتَ كما أنتَ عبِقْ
فاحترقْ
ويحسن بنا أن نسجل في هذا المقام كلمات الدكتور عبد الله الطيب الذي علق على هذه الأبيات في تقديمه لديوان «نحن والردى» فأوضحت المعنى، فقال رحمه الله «المعانى واضحة، مشرقة، مأخوذة من مصدرين معروفين في حياتنا اليومية إلى عهد قريب، الأول عمل الريحة للعرس والطهارة يدق الصندل أو الكليْت والشاف أو ما عسى ان يكون من حطب الطيب. والمصدر الثانى حطب الوقود ل «تُقَّابة» الخلوة والقرآن. والحطب يُجْمَع من الغابات وأشجار القرية. ثُمَّ يُكَسَّر بالفأس وكلاهما خَشَبُ الطيبِ وخَشَبُ وقودِ التُقَّابة، يُعْرَض للنار فتشتعل فيه. ومِجْمَر البخور قد يُوضع فيه اللبان وسواه. وحطب التُقَّابة ترتفع ألسنة نيرانه وتستضىء بها الحلقة التى حولها من الحيران.
وكلمة ضوع في قوله «مثلما ضوع في الأهوال صبراً» قد تلمس فيها فتجده معنى ضَوَّع الذى للطيب وللبخور ومعنى ضَوَّأ بتشديد الواو الذى من الضوء بقلب الهمزة عيناً على اللهجة الشائعة في كثير من كلام أهلنا.
الافتتان في قوله:
فلئن كنت كما أنت عَبِقْ
فاحتَرِقْ
قمَّة في حسن التعبير وإصابة عين الثور Bull?s eye كما يقال بالإنجليزية من أساليب الطفرة التعبيرية. وتوضيح ذلك أن البخور تزكو رائحته بالاحتراق كما هو معلوم، وكما أشار إليه حبيب بن أوس «أبو تمام» في قولته المشهورة:
وإذا أراد اللهُ نَشْر فَضِيلَةٍ
طُوِيَتْ أتَاحَ لَهَا لِسَانُ حَسُّودِ
لَوْلا اشْتِعَالُ النارِ فِيْمَا جَاوَرَتْ
ما كَانَ يُعْرَف طِيبُ عَرْفِ العُودِ
فالشاعر هنا يقول للمجاهد المناضل الصابر المخلص الحسن الأعمال «أنت عطر فائح الطيب بعملك الطيب ولكن ذكاء عطرك يفوح حقّاً حين يحترق. لذلك فاحترق يا أيها الطيب العبق الرائحة لكى تفوح وينتشر طيبك».
ولئن كُنْتَ كما أنت عبق
فاحترق.
وفي النغم انبهار ومفاجأة. ولذلك يجوز الوجهان فاصل بعد عَبِقْ، وتكتب «فاحترق» في نفس السطر. أو تكتب في السطر الذى يلى فإنها بيت شعر كامل. لأن الوقفة عند آخر الشطر الفائت طويلة تعادل أكثر من نصف شطر. وتكون بقوله «فاحترق» شطراً تاماً» انتهى نص عبد الله الطيب رحمه الله.
2/ الحياة أقوى من الموت
يقول سيد:
إن فكرة الموت ما تزال تخايل لك، فتتصورينه في كل مكان، ووراء كل شيء، وتحسبينه قوة طاغية، تُظِلُّ الحياة والأحياء، وتَرَيْنَ الحياة بجانبه ضئيلة واجفة مذعورة.
إنني أنظر اللحظة فلا أراه إلا قوة ضئيلة حسيرة، بجانب قوى الحياة الزاخرة الطافرة الغامرة، وما يكاد يصنع شيئاً إلا أن يلتقط الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات!!
مَدُّ الحياة الزاخر هو ذا يعج من حولي!!.. كل شيء إلى نماء وتدفق وازدهار ... الأمهات تحمل وتضع، الناس والحيوان سواء. الطيور والأسماك والحشرات تدفع بالبيض المتفتح عن أحياء وحياة ... الأرض تتفجر بالنبت المتفتح عن أزهار وثمار ... السماء تتدفق بالمطر، والبحار تعج بالأمواج ... كل شيء ينمو على هذه الأرض ويزداد!!
بين الحين والحين يندفع الموت فينهش نهشة ويمضي، أو يقبع حتى يلتقط بعض الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات!! والحياة ماضية في طريقها، حية متدفقة فوارة، لا تكاد تحس بالموت أو تراه!!
لقد تصرخ مرة من الألم، حين ينهش الموت من جسمها نهشة، ولكن الجرح سرعان ما يندمل، وصرخة الألم سرعان ما تستحيل صيحة مراح... ويندفع الناس والحيوان، والطير والأسماك، والدود والحشرات، والعشب والأشجار، تغمر وجه الأرض بالحياة والأحياء!! والموت قابع هنالك، ينهش نهشة ويمضي.. أو يتسقّط الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات!!
الشمس تطلع والشمس تغرب، والأرض من حولها تدور، والحياة تنبثق من هنا ومن هناك ... كل شيء إلى نماء ... نماء في العدد والنوع، نماء في الكم والكيف... لو كان الموت يصنع شيئاً لوقف مد الحياة!! ... ولكنه قوة ضئيلة حسيرة، بجانب قوى الحياة الزاخرة الطافرة الغامرة!!
من قوة الله الحي.. تنبثق الحياة وتنداح !!
يقول صلاح:
يا رياحَ الموتِ هُبي إن قدرتِ اقتلعينا
اعملي أسيافك الحمراء في الحي شمالاً ويمينا
قطّعي مِنا الذؤابات ففي الأرض لنا غاصت جذور
شتتينا، فلكم عاصفةُ مرّت ولم تَنس أياديها البذور
زمجري حتى يُبحَّ الصوتُ، حتى يعقبَ الصمت الهدير
اسحقينا وامحقينا
تجدينا.. نحن أقوى منك بأساً ما حيينا
وإذا متنا سنحيا في بنينا
بالذي يبعث فيهم كلَّ ما يبرِقُ فينا
فلنا فيهم نشور
3/ طريق الخلود
يقول سيد:
عندما نعيش لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة، تبدأ من حيث بدأنا نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود!!
أما عندما نعيش لغيرنا، أي عندما نعيش لفكرة، فإن الحياة تبدو طويلة عميقة، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية، وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض!!
إننا نربح أضعاف عمرنا الفردي في هذه الحالة، نربحها حقيقة لا وهماً، فتصور الحياة على هذا النحو، يضاعف شعورنا بأيامنا وساعاتنا ولحظاتنا . فليست الحياة بِعَدِّ السنين، ولكنها بعدادِ المشاعر، وما يسميه «الواقعيون» في هذه الحالة «وهماً» ! هو في الواقع «حقيقة»، أصحّ من كل حقائقهم ! ... لأن الحياة ليست شيئاً آخر غير شعور الإنسان بالحياة.. جَرِّدْ أي إنسان من الشعور بحياته تجرده من الحياة ذاتها في معناها الحقيقي ! ومتى أحس الإنسان شعوراً مضاعفاً بحياته، فقد عاش حياة مضاعفة فعلاً ...
يبدو لي أن المسألة من البداهة بحيث لا تحتاج إلى جدال!
إننا نعيش لأنفسنا حياة مضاعفة، حينما نعيش للآخرين، وبقدر ما نضاعف إحساسنا بالآخرين، نضاعف إحساسنا بحياتنا، ونضاعف هذه الحياة ذاتها في النهاية!!
يقول صلاح:
إن للفضل وإن مات ذووه لضياء
ليس يخبو فأسالوا أهل النهى
رُب ضوءٍ لامعٍ من كوكبٍ حيث انتهى
ذلك الكوكبُ آلافاً وآلافاً سنينا
ويضيف صلاح في مقطع آخر:
في غدٍ يعرف عنّا القادمون
أيَّ حُبٍ حَمَلْناه لَهُمْ
في غدٍ يحسبُ منهم حاسبون
كم أيادٍ أُسلفت منا لهم
في غدٍ يحكون عن أنّاتنا
وعن الآلام في أبياتنا
وعن الجُرحِ الذي غنّى لهم
كل جُرحٍ في حنايانا يهون
حين يغدو رايةً تبدو لهمْ
وفي المقطع الأخير من القصيدة قال:
رُبَّ شمسٍ غَرُبتْ والبدرُ عنها يُخبرُ
وزهورٌ قد تلاشت وهي في العطر تعيش
4/ والذي يملك عينين ولا لب: عمي!!
قال سيد:
من الناس في هذا الزمان، من يرى في الاعتراف بعظمة الله المطلقة غضّاً من قيمة الإنسان، وإصغاراً لشأنه في الوجود: كأنما الله والإنسان ندّان، يتنافسان على العظمة والقوة في هذا الوجود!!
أنا أحس أنه كلما ازددنا شعوراً بعظمة الله المطلقة، زدنا نحن أنفسنا عظمة، لأننا من صنع إله عظيم!!
إن هؤلاء الذين يحسبون أنهم يرفعون أنفسهم حين يخفضون في وهمهم إلههم أو ينكرونه، إنما هم المحدودون، الذين لا يستطيعون أن يروا إلا الأفق الواطئ القريب!!
إنهم يظنون أن الإنسان إنما لجأ إلى الله إبّان ضعفه وعجزه، فأما الآن فهو من القوة بحيث لا يحتاج إلى إله! كأنما الضعف يفتح البصيرة، والقدرة تطمسها!
إن الإنسان لجدير بأن يزيد إحساساً بعظمة الله المطلقة كلما نمت قوته، لأنه جدير بأن يدرك مصدر هذه القوة، كلما زادت طاقته على الإدراك.
إن المؤمنين بعظمة الله المطلقة لا يجدون في أنفسهم ضعة ولا ضعفاً، بل على العكس، يجدون في نفوسهم العزة والمنعة، باستنادهم إلى القوة الكبرى، المسيطرة على هذا الوجود. إنهم يعرفون أن مجال عظمتهم إنما هو في هذه الأرض، وبين هؤلاء الناس، فهي لا تصطدم بعظمة الله المطلقة في هذا الوجود. إن لهم رصيداً من العظمة والعزة في إيمانهم العميق، لا يجده أولئك الذين ينفخون أنفسهم ك «البالون» حتى ليغطي الورم المنفوخ عن عيونهم كل آفاق الوجود!!
قال صلاح:
ربّ .. من ينهلُ من بحرِ الغُوايات ظَمِي
والذي يملكُ عينينَ ولا لُبّ عمي
والذي تسحرهُ الدنيا ولم يدرِ المصير
أبلهٌ يمرحُ في القيدِ وفي الحُلمِ يسير
ريثما توقظه السقطةُ في القاعِ ولا يعرفُ أيْنا
وقال أيضاً:
ضلّ من يبحث في سر الوجود
بالذي أنكر بالبارئ أو فيه اعتقد
فاجعل الموتَ طريقاً للبقاء
وابتغِ الحقَ شريعه
واسلِك الفضلَ وقل يا هؤلاء
خاب قومُ جحدوا الفضل صنيعه
5/ يقين يقي من الفزع
قال سيد:
لم أعد أفزع من الموت حتى لو جاء اللحظة!! لقد أخذت في هذه الحياة كثيراً، أعني: لقد أعطيت!!
أحياناً تصعب التفرقة بين الأخذ والعطاء، لأنهما يعطيان مدلولاً واحداً في عالم الروح ! في كل مرة أعطيت لقد أخذت، لست أعني أن أحداً قد أعطى لي شيئاً، إنما أعني أنني أخذت نفس الذي أعطيت، لأن فرحتي بما أعطيت لم تكن أقل من فرحة الذين أخذوا.
لم أعد أفزع من الموت حتى لو جاء اللحظة ! لقد عملت بقدر ما كنت مستطيعاً أن أعمل ! هناك أشياء كثيرة أود أن أعملها، لو مُدَّ لي في الحياة، ولكن الحسرة لن تأكل قلبي إذا لم أستطع، إن آخرين سوف يقومون بها، إنها لن تموت إذا كانت صالحة للبقاء، فأنا مطمئن إلى أن العناية التي تلحظ هذا الوجود لن تدع فكرة صالحة تموت.
وقال صلاح:
هذه أعمالُنا مرقومةُ ُ بالنورِ في ظهرِ مطايا
عبَرت دنيا لأخرى، تستبقْ
تنتهي عُمراً فعُمرا
وهي ند تحترق
ما انحنتْ قاماتُنا من حِمْلِ أثقال الرزايا
فلنا في حَلكِ الأهوالِ مَسْرى
وطُرُق
فإذا جاء الردى كَشّرَ وجهاً مُكْفهراً
عارضاً فينا بسيفِ دمويّ ودَرَق
ومُغيرا
بيدٍ تحصُدنا، لم نُبدِ للموتِ ارتعاداً أو فَرقْ
نترك الدنيا وفي ذاكرةِ الدنيا لنا ذِكرٌ وذكرى
من فِعالٍ وخلُق
ولنا إرثٌ من الحكمة والحِلم وحُبِ الكادحين
وولاءٌ حينما يكذبُ أهليه الأمين
ولنا في خدمة الشعب عَرَق