الثلاثاء، 11 يناير 2022

 «السيد» الذي ينظر بعين «الصلاح»

نشر في الصحافة يوم 18 - 06 - 2013

: بعض النصوص يقرأها المرء فيحس بالمتعة والنشوة والروعة، وقد تفرض عليه فرضاً أن يقرأها مرات ومرات، ثم يحتفظ بها من أجل أن يعاود مطالعتها من حين لآخر، فيجدد بقراءتها ذات الإحساس الرائع. وانتابني هذا الإحساس وأنا أطلع على رائعة الأستاذ صلاح أحمد إبراهيم «نحن والردى» لأول مرة، في عدد من مجلة «الخرطوم» الصادر في 1994م، فقمت بكتابتها اولاً في كراسة المختارات فوجدتها درة هذه المختارات التي حوت اشعار القدماء والمعاصرين، وأسرتني بفلسفتها ومعانيها العميقة، والجرس الرنان الذي يحرص عليه صلاح في معظم أشعاره، رحمه الله.
النص الآخر الذي تتطرق إليه هذه الكلمات هو نص عرف بعنوان «أفراح الروح»، اما الكاتب فهو الأستاذ الأديب سيد قطب رحمه الله. وقد اشتهر هذا النص بأنه رسالة كتبها إلى اخته «أمينة»، إلا أن الدكتور صلاح الخالدي أكد من خلال تقديمه لهذا النص أنه عبارة عن مقتطفات من رسائل عدة، بعث بها سيد إبان بعثته إلى امريكا في عام 1984م إلى اخوانه واصدقائه في مصر، ووجدت أول فرصة لها للنشر في عام 1959م بمجلة «الفكر» التونسية تحت عنوان اختارته المجلة التونسية وهو «أضواء من بعيد» ثم اختارت دور النشر التي توالت في طبعها بعد ذلك أن تعيد طباعتها تحت عنوان «أفراح الروح»، وبهذا الإسم اشتهرت وعرفت بين الناس. وقد قرأت هذا النص مرات ومرات، فهو أهل لذلك بما حوى من فكر سامق باسلوب «سيد» المتفرد. وقد لاحظت كلما عاودت قراءة نص سيد أنني اتذكر شيئاً من كلمات صلاح، وأنني كلما قرأت من أبيات «نحن والردى» استرجع طرفاً من «أفراح الروح»، ولاحظت بلا عناء ولا اجتهاد أن التشابه بين هذين العملين العظيمين جد كبير، يكاد ينطبق عليه قول «النجاشي» وهو يصف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به عيسى عليه السلام بأنهما «يخرجان من مشكاة واحدة». وما اخال مشكاة «سيد» و «صلاح» إلا البصيرة الثاقبة.
وفي السطور التالية تجد كلمات سيد قطب تليها أبيات صلاح، ولم أتدخل في هذه النصوص إلا بوضع بعض العناوين الجانبية، ولم أزد أي شرح أو تفسير حتى لا أفسد متعة هذه النصوص، إلا ما كان في الفقرة الأولى من إضافة كلمات للدكتور عبد الله الطيب وجدتها في تقديمه الرائع لديوان صلاح، وأترك للقارئ أجر الاجتهاد في مراجعة كل فقرة، بقراءة أفكار الكاتبين ومراجعة أسلوبيهما في التعبير عن هذه الأفكار ومقارنة كل نص بالآخر، وإني لأرجو أن يجد ما وجدت من روعة وامتاع.
1/ مت لأجلها.. ستحيا فكرتك
يقول سيد:
كل فكرة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان!! أما الأفكار التي لم تُطْعَمْ هذا الغذاء المقدّس، فقد وُلدت ميتة، ولم تدفع بالبشرية شبراً واحداً إلى الأمام!!
واشتهرت عن سيد كلمات أخرى وردت في غير هذا النص تفيد هذا المعنى، وهي كلماته الرائعة «إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح.. ومشت فيها الحياة»
يقول صلاح:
يا ذكيَّ العودِ بالمطرقةِ الصمّاءِ والفأسِ تشظّى
وبنيرانٍ لها ألفُ لسانٍ قد تلظّى
ضُعْ على ضوئِك في الناس اصطباراً ومآثْر
مثلما ضوَّعَ في الأهوال صبَراً آلُ «ياسر»
فلئن كنتَ كما أنتَ عبِقْ
فاحترقْ
ويحسن بنا أن نسجل في هذا المقام كلمات الدكتور عبد الله الطيب الذي علق على هذه الأبيات في تقديمه لديوان «نحن والردى» فأوضحت المعنى، فقال رحمه الله «المعانى واضحة، مشرقة، مأخوذة من مصدرين معروفين في حياتنا اليومية إلى عهد قريب، الأول عمل الريحة للعرس والطهارة يدق الصندل أو الكليْت والشاف أو ما عسى ان يكون من حطب الطيب. والمصدر الثانى حطب الوقود ل «تُقَّابة» الخلوة والقرآن. والحطب يُجْمَع من الغابات وأشجار القرية. ثُمَّ يُكَسَّر بالفأس وكلاهما خَشَبُ الطيبِ وخَشَبُ وقودِ التُقَّابة، يُعْرَض للنار فتشتعل فيه. ومِجْمَر البخور قد يُوضع فيه اللبان وسواه. وحطب التُقَّابة ترتفع ألسنة نيرانه وتستضىء بها الحلقة التى حولها من الحيران.
وكلمة ضوع في قوله «مثلما ضوع في الأهوال صبراً» قد تلمس فيها فتجده معنى ضَوَّع الذى للطيب وللبخور ومعنى ضَوَّأ بتشديد الواو الذى من الضوء بقلب الهمزة عيناً على اللهجة الشائعة في كثير من كلام أهلنا.
الافتتان في قوله:
فلئن كنت كما أنت عَبِقْ
فاحتَرِقْ
قمَّة في حسن التعبير وإصابة عين الثور Bull?s eye كما يقال بالإنجليزية من أساليب الطفرة التعبيرية. وتوضيح ذلك أن البخور تزكو رائحته بالاحتراق كما هو معلوم، وكما أشار إليه حبيب بن أوس «أبو تمام» في قولته المشهورة:
وإذا أراد اللهُ نَشْر فَضِيلَةٍ
طُوِيَتْ أتَاحَ لَهَا لِسَانُ حَسُّودِ
لَوْلا اشْتِعَالُ النارِ فِيْمَا جَاوَرَتْ
ما كَانَ يُعْرَف طِيبُ عَرْفِ العُودِ
فالشاعر هنا يقول للمجاهد المناضل الصابر المخلص الحسن الأعمال «أنت عطر فائح الطيب بعملك الطيب ولكن ذكاء عطرك يفوح حقّاً حين يحترق. لذلك فاحترق يا أيها الطيب العبق الرائحة لكى تفوح وينتشر طيبك».
ولئن كُنْتَ كما أنت عبق
فاحترق.
وفي النغم انبهار ومفاجأة. ولذلك يجوز الوجهان فاصل بعد عَبِقْ، وتكتب «فاحترق» في نفس السطر. أو تكتب في السطر الذى يلى فإنها بيت شعر كامل. لأن الوقفة عند آخر الشطر الفائت طويلة تعادل أكثر من نصف شطر. وتكون بقوله «فاحترق» شطراً تاماً» انتهى نص عبد الله الطيب رحمه الله.
2/ الحياة أقوى من الموت
يقول سيد:
إن فكرة الموت ما تزال تخايل لك، فتتصورينه في كل مكان، ووراء كل شيء، وتحسبينه قوة طاغية، تُظِلُّ الحياة والأحياء، وتَرَيْنَ الحياة بجانبه ضئيلة واجفة مذعورة.
إنني أنظر اللحظة فلا أراه إلا قوة ضئيلة حسيرة، بجانب قوى الحياة الزاخرة الطافرة الغامرة، وما يكاد يصنع شيئاً إلا أن يلتقط الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات!!
مَدُّ الحياة الزاخر هو ذا يعج من حولي!!.. كل شيء إلى نماء وتدفق وازدهار ... الأمهات تحمل وتضع، الناس والحيوان سواء. الطيور والأسماك والحشرات تدفع بالبيض المتفتح عن أحياء وحياة ... الأرض تتفجر بالنبت المتفتح عن أزهار وثمار ... السماء تتدفق بالمطر، والبحار تعج بالأمواج ... كل شيء ينمو على هذه الأرض ويزداد!!
بين الحين والحين يندفع الموت فينهش نهشة ويمضي، أو يقبع حتى يلتقط بعض الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات!! والحياة ماضية في طريقها، حية متدفقة فوارة، لا تكاد تحس بالموت أو تراه!!
لقد تصرخ مرة من الألم، حين ينهش الموت من جسمها نهشة، ولكن الجرح سرعان ما يندمل، وصرخة الألم سرعان ما تستحيل صيحة مراح... ويندفع الناس والحيوان، والطير والأسماك، والدود والحشرات، والعشب والأشجار، تغمر وجه الأرض بالحياة والأحياء!! والموت قابع هنالك، ينهش نهشة ويمضي.. أو يتسقّط الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات!!
الشمس تطلع والشمس تغرب، والأرض من حولها تدور، والحياة تنبثق من هنا ومن هناك ... كل شيء إلى نماء ... نماء في العدد والنوع، نماء في الكم والكيف... لو كان الموت يصنع شيئاً لوقف مد الحياة!! ... ولكنه قوة ضئيلة حسيرة، بجانب قوى الحياة الزاخرة الطافرة الغامرة!!
من قوة الله الحي.. تنبثق الحياة وتنداح !!
يقول صلاح:
يا رياحَ الموتِ هُبي إن قدرتِ اقتلعينا
اعملي أسيافك الحمراء في الحي شمالاً ويمينا
قطّعي مِنا الذؤابات ففي الأرض لنا غاصت جذور
شتتينا، فلكم عاصفةُ مرّت ولم تَنس أياديها البذور
زمجري حتى يُبحَّ الصوتُ، حتى يعقبَ الصمت الهدير
اسحقينا وامحقينا
تجدينا.. نحن أقوى منك بأساً ما حيينا
وإذا متنا سنحيا في بنينا
بالذي يبعث فيهم كلَّ ما يبرِقُ فينا
فلنا فيهم نشور
3/ طريق الخلود
يقول سيد:
عندما نعيش لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة، تبدأ من حيث بدأنا نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود!!
أما عندما نعيش لغيرنا، أي عندما نعيش لفكرة، فإن الحياة تبدو طويلة عميقة، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية، وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض!!
إننا نربح أضعاف عمرنا الفردي في هذه الحالة، نربحها حقيقة لا وهماً، فتصور الحياة على هذا النحو، يضاعف شعورنا بأيامنا وساعاتنا ولحظاتنا . فليست الحياة بِعَدِّ السنين، ولكنها بعدادِ المشاعر، وما يسميه «الواقعيون» في هذه الحالة «وهماً» ! هو في الواقع «حقيقة»، أصحّ من كل حقائقهم ! ... لأن الحياة ليست شيئاً آخر غير شعور الإنسان بالحياة.. جَرِّدْ أي إنسان من الشعور بحياته تجرده من الحياة ذاتها في معناها الحقيقي ! ومتى أحس الإنسان شعوراً مضاعفاً بحياته، فقد عاش حياة مضاعفة فعلاً ...
يبدو لي أن المسألة من البداهة بحيث لا تحتاج إلى جدال!
إننا نعيش لأنفسنا حياة مضاعفة، حينما نعيش للآخرين، وبقدر ما نضاعف إحساسنا بالآخرين، نضاعف إحساسنا بحياتنا، ونضاعف هذه الحياة ذاتها في النهاية!!
يقول صلاح:
إن للفضل وإن مات ذووه لضياء
ليس يخبو فأسالوا أهل النهى
رُب ضوءٍ لامعٍ من كوكبٍ حيث انتهى
ذلك الكوكبُ آلافاً وآلافاً سنينا
ويضيف صلاح في مقطع آخر:
في غدٍ يعرف عنّا القادمون
أيَّ حُبٍ حَمَلْناه لَهُمْ
في غدٍ يحسبُ منهم حاسبون
كم أيادٍ أُسلفت منا لهم
في غدٍ يحكون عن أنّاتنا
وعن الآلام في أبياتنا
وعن الجُرحِ الذي غنّى لهم
كل جُرحٍ في حنايانا يهون
حين يغدو رايةً تبدو لهمْ
وفي المقطع الأخير من القصيدة قال:
رُبَّ شمسٍ غَرُبتْ والبدرُ عنها يُخبرُ
وزهورٌ قد تلاشت وهي في العطر تعيش
4/ والذي يملك عينين ولا لب: عمي!!
قال سيد:
من الناس في هذا الزمان، من يرى في الاعتراف بعظمة الله المطلقة غضّاً من قيمة الإنسان، وإصغاراً لشأنه في الوجود: كأنما الله والإنسان ندّان، يتنافسان على العظمة والقوة في هذا الوجود!!
أنا أحس أنه كلما ازددنا شعوراً بعظمة الله المطلقة، زدنا نحن أنفسنا عظمة، لأننا من صنع إله عظيم!!
إن هؤلاء الذين يحسبون أنهم يرفعون أنفسهم حين يخفضون في وهمهم إلههم أو ينكرونه، إنما هم المحدودون، الذين لا يستطيعون أن يروا إلا الأفق الواطئ القريب!!
إنهم يظنون أن الإنسان إنما لجأ إلى الله إبّان ضعفه وعجزه، فأما الآن فهو من القوة بحيث لا يحتاج إلى إله! كأنما الضعف يفتح البصيرة، والقدرة تطمسها!
إن الإنسان لجدير بأن يزيد إحساساً بعظمة الله المطلقة كلما نمت قوته، لأنه جدير بأن يدرك مصدر هذه القوة، كلما زادت طاقته على الإدراك.
إن المؤمنين بعظمة الله المطلقة لا يجدون في أنفسهم ضعة ولا ضعفاً، بل على العكس، يجدون في نفوسهم العزة والمنعة، باستنادهم إلى القوة الكبرى، المسيطرة على هذا الوجود. إنهم يعرفون أن مجال عظمتهم إنما هو في هذه الأرض، وبين هؤلاء الناس، فهي لا تصطدم بعظمة الله المطلقة في هذا الوجود. إن لهم رصيداً من العظمة والعزة في إيمانهم العميق، لا يجده أولئك الذين ينفخون أنفسهم ك «البالون» حتى ليغطي الورم المنفوخ عن عيونهم كل آفاق الوجود!!
قال صلاح:
ربّ .. من ينهلُ من بحرِ الغُوايات ظَمِي
والذي يملكُ عينينَ ولا لُبّ عمي
والذي تسحرهُ الدنيا ولم يدرِ المصير
أبلهٌ يمرحُ في القيدِ وفي الحُلمِ يسير
ريثما توقظه السقطةُ في القاعِ ولا يعرفُ أيْنا
وقال أيضاً:
ضلّ من يبحث في سر الوجود
بالذي أنكر بالبارئ أو فيه اعتقد
فاجعل الموتَ طريقاً للبقاء
وابتغِ الحقَ شريعه
واسلِك الفضلَ وقل يا هؤلاء
خاب قومُ جحدوا الفضل صنيعه
5/ يقين يقي من الفزع
قال سيد:
لم أعد أفزع من الموت حتى لو جاء اللحظة!! لقد أخذت في هذه الحياة كثيراً، أعني: لقد أعطيت!!
أحياناً تصعب التفرقة بين الأخذ والعطاء، لأنهما يعطيان مدلولاً واحداً في عالم الروح ! في كل مرة أعطيت لقد أخذت، لست أعني أن أحداً قد أعطى لي شيئاً، إنما أعني أنني أخذت نفس الذي أعطيت، لأن فرحتي بما أعطيت لم تكن أقل من فرحة الذين أخذوا.
لم أعد أفزع من الموت حتى لو جاء اللحظة ! لقد عملت بقدر ما كنت مستطيعاً أن أعمل ! هناك أشياء كثيرة أود أن أعملها، لو مُدَّ لي في الحياة، ولكن الحسرة لن تأكل قلبي إذا لم أستطع، إن آخرين سوف يقومون بها، إنها لن تموت إذا كانت صالحة للبقاء، فأنا مطمئن إلى أن العناية التي تلحظ هذا الوجود لن تدع فكرة صالحة تموت.
وقال صلاح:
هذه أعمالُنا مرقومةُ ُ بالنورِ في ظهرِ مطايا
عبَرت دنيا لأخرى، تستبقْ
تنتهي عُمراً فعُمرا
وهي ند تحترق
ما انحنتْ قاماتُنا من حِمْلِ أثقال الرزايا
فلنا في حَلكِ الأهوالِ مَسْرى
وطُرُق
فإذا جاء الردى كَشّرَ وجهاً مُكْفهراً
عارضاً فينا بسيفِ دمويّ ودَرَق
ومُغيرا
بيدٍ تحصُدنا، لم نُبدِ للموتِ ارتعاداً أو فَرقْ
نترك الدنيا وفي ذاكرةِ الدنيا لنا ذِكرٌ وذكرى
من فِعالٍ وخلُق
ولنا إرثٌ من الحكمة والحِلم وحُبِ الكادحين
وولاءٌ حينما يكذبُ أهليه الأمين
ولنا في خدمة الشعب عَرَق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بسم الله الرحمن الرحبم