الأحد، 15 فبراير 2009

الشاعر الذي لم يوف حقه....
مطالعة سريعة في مجموعة المجذوب


اذا ذكر المجذوب وشعره فلعل الخاطر يذهب الى الشاعر محمد المهدي المجذوب رحمه الله، فإن لم يفعل، فقد يذهب الى العالم الأديب الدكتور عبدالله الطيب المجذوب، رحمه الله، الا أننا نقصد في هذه المطالعة السريعة أن نتآنس مع كتاب "مجموعة المجذوب " الذي يشمل ثلاثة دواويين شعرية لثلاثة من شعراء المجاذيب وشيوخهم وعلماءهم، بالاضافة الى ستة مؤلفات للشيخ محمد مجذوب بن قمرالدين المجذوب هي:
قصة المعراج المسماة بالجمانة اليتيمة.
النور الساطع في مولد النبي الجامع.
مولد اللالئ الزاهرات والفصوص الفائقات.
النفحات الليلية في ذكر مولد خير البرية.
العقد المنظم في ذكر مولد الرسول المكرم.
سر المدد والسهود في مدح النبي المحمود.
وهذه الكتب الست هي جزء من ثلاثين مؤلفا لهذا الشيخ الجليل، وتضم مؤلفاته كتبا في علم الحديث والمصطلح، وفي الفقه وأصوله، واللغة العربية، وعلوم التصوف والسلوك. ونقتطف سيرته الذاتية بما يسمح له المقام من كتاب (المجاذيب نير وأنوار) للدكتور أحمد بابكر الطاهر جلال الدين الذي يقول: (هذا بحر فيه عاصف وماله من قرار، وسحاب دفوق، وجبل شامخ أشم. ولد في عام 1795م بالمتمة عاصمة السعداب، والعاصمة التجارية بالمنطقة، التحق بخلوة الفقيه أحمد ود حمد العمرابي، وفي رواية أخرى: بخلوة ود المحبوب في المتمة، والثالثة تدعي أن أحد معلميه في الخلوة هو ابراهيم السقا من شندي. وعندما انتقلت أمه عائشة وأولادها الى الدامر التحق محمد المجذوب بخلوة آبائه في الدامر ودرس مع القرءان الفقه والأصول والتوحيد واللغة العربية، درس محمد المجذوب على يدي اثنين من ابناء عمه الخليفة أحمد أب جدري وهما: الحاج علي الذي درس القرءان مع أولاد جابر في الشايقية، ومحمد الأزرق والذي كان يعلم الفقه ومؤلف كتاب " الاجازة في المقول والنتقول" والذي قضى مايربو على التسع سنين في الحجاز.)
نعود الى مجموعة المجذوب، والتي تبدأ بقصة المعراج، في 21 صفحة، وهي ايراد لقصة الاسراء والمعراج مكتوبة سجعاً؛ ثم تليها النور الساطع، ويقع هذا المولد في 30 صفحة (خطبة المولد خمسة صفحات تقرأ قياما، ثم خمسة وعشرون صفحة للمولد نفسه) هو مولد مسجوع أيضا، تتخلله بعض الأشعار العامية والفصيحة، ويفصل بين كل فصل وآخر ب: صل يامولانا سلم ** على الحبيب العالي كرم.
يلي ذلك مولد اللآلي الزاهرات، ويقع في ست عشرة صفحة، ثم النفحات الليلية، ويقع في اثنتي عشرة صفحة، ثم يأتي العقد المنظم، وهذا المولد منظوم بكامله شعرا في قافية رائية، ويحوي ثمانية وأربعون ومائة بيت، تتخللها التعطيرات بين كل فصل وآخر، وهي:
يارب عطر خير قبر ضمه**** بشذا من الصلوات وامنح لثمه
اللهم صلّ وسلم وبارك عليه

يلي ذلك ماسمي ب " سر المدد والسهود " وهذه عبارة عن خماسيات لكل حرف من الحروف الأبجدية، تبتدئ من حرف الهمزة الى حرف الياء، يقول مثلا في حرف الهمزة:
كثير التواضع إن أردت نعوته
طلبت من البحر الخضم تفوته
له الذكر قوت، ثم فكر سكوته
حزينا تراه دائما، ثم موته
بنصب لعين، دائما ليس ينسأ

والمقطع الأخير (ثم موته، بنصب لعين) كأنما يشير لقول الله تعالى في مدح أنبيائه (إنا أخلصناهم بخالصة: ذكرى الدار) أي لا ينسون الدار الآخرة.
ثم يأتي من بعد ذلك ديوان الشيخ محمد المجذوب، ويحوي هذا الديوان حوالي 60 قصيدة، تبدأ بأشهر قصائده:
صببت دموعا يشهد الحزن أنها
أتت من فؤاد بالغرام متيم.
تليها قصيدته:
لقد طال شوقي يا أميني لطيبة
أشخصها طورا وطورا أناظر
والتي من أبياتها:
فعلت رسول الله فينا صنائعا
بغيرك لم يظفر بها قط ظافر
فعرفتنا بالله ربا وقدتنا
لطاعته، والناس هالك خاسر
وجئت لنا من ربنا بكتابه
يقص علينا لا تعيه الدفاتر
وكم نلت من مولاك علما وحكمة
لنيلهما أهل العلا قد تقاصروا

ومعظم أبيات هذا الديوان من الشعر العربي الفصيح، الموزون المقفى، ويحوي صورا رائعة في حب المصطفى صلى الله عليه وسلم والتعلق به والهيام بعشقه، وفي كل مرة يأتي بطريقة جديدة في تصوير هذه المحبة، استمع اليه وهو يشخص من نفسه شخصا آخر، ويخاطبه بقوله:
أراك حزينا، منك فاضت مدامعُ
أمّن نسمة هبت؟ أم النور لامع؟
ومالك مهما ان تذكرت جيرةً
بشعب بني سعد جفتك المضاجع !
فقل لي، فعهد الكتم عندي مؤكد
وسرك عندي لا تعيه المسامع
ولكن دمع العين منك مترجم
بأنك في حب الرسول لبارع
فيهنيك هذا، عش بهذا معذبا
فتعذيبه عذبٌ وحلوٌ ونافع !
عشقت رسول الله ربَّك وحده
فعشّق فيك الخلق، فالربُ رافع
ملكتَ قلوب المؤمنين صبابةً
إليك جميع المؤمنين توابع
كشفت ظلام الشرك بعد اشتداده
وأخلفته نورا، بنورك ساطع

ويشمل الديوان ثمانية قصائد صيغت بالعامية، ويتميز أكثرها بالإيقاع السريع، ولكن دون ركاكة في الأسلوب ولا المعاني، كما في قصيدة "ردف السلام" والتي من أبياتها:
مثله ما انشاف ** في الحسن والعفاف
قلبه عطاف ** لجملة الضعاف
وجهه كالسراج ** نوره وهاج
ليلة المعراج ** كبروا له التاج

وفي قصيدة "نسيم البيت لاقانا" يطنب في ذكر الاء الله ونعمه على عباده، يقول:
بديت بالله مولانا ** عظيم الفضل حنانا
لحج البيت نادانا ** وبالأنوار مدّانا
من الإعدام انشانا ** بمحض الفضل سوانا
وفي الأرحام غذّانا ** بسرٍ منه سبحانا
ببطن الأم ربانا ** لوقت الوضع أبدانا
جنينا طاهرا كانا ** وبالأملاك حفّانا
بضرع يابس اسقانا ** شرابا منه ألبانا
وحين الفطم قوّانا ** وبالإطعام ربانا
نَعَم بالخير أسدانا ** نعيما منه ألوانا
وثم العقل أولانا ** وبالتوحيد حلّانا

ثم تأتي بعد القصائد العامية، المريعات العشرة، ومربعات أي أن كل بيتين (أربعة أشطر) تمثل وحدة بذاتها، يقول في القصيدة الثالثة من المربعات العشرة:
فدمع العين لم تطفي ** لنار الشوق من جوفي
نَعَم، تُطفى اذا وصلوا ** وداموا لي بهم وصلا
* * * *
أحن حنين من فقدت ** وليدات فما وجدت.
لقبر المصطفى فابكوا ** عساكم تبلغوا الأملا

ويبدو من الفصاحة المتدفقة من أبيات المديح، سعة الاطلاع على الشعر القديم، وعمق الثقافة بالأدب والتراث الشعري للأدباء الأوائل، وتظهر هذه الصلة بالشعر القديم عندما تجد الاهتمام بتشطير أو تخميس بعض أبيات الشعراء السابقين، واعطائها المعاني التي يقصدها شاعر يهيم بحب المصطفى صلى الله عليه وسلم، يقول مشطرا أبياتاً مشهورة:
رُفع الحجاب لنا فبان لناظري
نور له تتحير الأفهام
فتعجبت من أمره فإذا به
قمر تقطع دونه الأفهام
فاذا المطي بنا بلغن محمدا
فلها علينا المن والانعام
واذا عجزنا عن مكافأة لها
فظهورهن على الرجال حرام
قربننا من خير من وطئ الثرى
طابت لنا من ربها الأيام
من يدها هذي الكريمة سيدت
فلها علينا حرمة وذمام
(اذا أردت أن تقرأ القصيدة الأصلية فعليك ان تقرا عجز البيت الثاني مع صدر البيت الأول وهكذا)
والقصائد الأخيرة من الديوان تشمل وصايا ونصائح ووعظ وعتاب للنفس وتذكير لها باحسان الله تعالى، ويذمها على التكاسل في الطاعات، يقول في احداها:
وتبدو لي الأعذار ان رمت طاعة
وان رمت للعصيان طرتُ بجملتي!
وقلبيَ لم أعهد لهُ وجلةً اذا
ذكرتُ لربي في المساء وبكرةِ
اذا قمت وقتاً للصلاة تراكمت
عليّ من الدنيا الهموم وحفّتِ
كأن لم أكن أومن بقول رسولنا
يناجي المصلي ربَّه، بئس حالتي!
وأجهر بالتكبير والحمد والدعا
أقولهما قولاً بغاية غفلتي
أُثني المثاني ركعة بعد ركعةٍ
وما انفعلت نفسي لها أو لسورةِ
ومع ذاك مغترٌ، فقل متعجباً:
على أي شيئ بعد هذي المعرةِ
فلا حول لي مما ذكرتُ ولا قوىً
بغيرك ياربي، فعجل اغاثتي
وله أبيات تحث على علو الهمة أحسن فيها وأجاد، يقول فيها:
شمِّر لنيل الفضل ان رُمت العلا
فالفضل والعليا لكل مشمّرِ
خوفُ الإله وحبُّهُ والزهدُ في
دار الدنية خذ لقلبك عمِّرِ
والذل والخسرى لطالب راحةٍ
لو يبلغن في العُمر عُمر معَمِّر
والزم لحسن الخلق خير تجارة
وحظوظ نفسك ما استطعت فدمِّر

وتشتمل المجموعة أيضا على ديوانين آخرين يجمل بنا الّا نتجاوزهما دون المرور عليهما لما يحويانه من شوق وحب وابداع.
الديوان الأول ديوان "فريد العاشقين" للخليفة الاستاذ الشيخ الطاهر المجذوب، ويحوي هذا الديوان على تخميس عدد من قصائد الديوان الأول، مثل تخميس قصيدة "صببت دموعاً" و"نفحة مسك" ، وله أيضا قصائد خاصة به تتسم بالروعة والأبداع، ولقد أسرتني، حقاً، قصيدته:
زائري في الطيف هل من عودةٍ
تُحي منها مُهجتي، بل أصغرَي
سادتي يا سادتي عطفاً على
من أذاب الوجدُ منه القلبَ وَيْ !!
وبراه الشوق حتى إنه
صار مكلوما وفي الأحشاء كي
ما ألذ العيش إن جد السُرى
حيث حادي العيس يحدو نحو حي

وقصيدته الأخرى:
حادياً للعيس قف ثم احملن
لي تحيات الى خير الورى

ووللحق، فإن قصائد الشيخ الطاهر روضات يانعات تعبر عن الحنين وأنين الشوق:
كيف الوصول الى حبيب قد سبا
قلب المهيم وهو لا يخفاه
نار المحبة أضرمت لحشاشتي
والبين عوقني من رؤياه

وهي أربع وثلاثون قصيدة أقل ما توصف به أنها رائعة.
ثم يأتي ديوان العارف بالله الشيخ محمد مجذوب بن الشيخ الطاهر، الملقب بالشيخ، ويبتدئ الديوان بتشطير قصيدة:
إن لمع البرق من خَيْف مِنى
لم يدع للعيش طيباً أو هنا
وسناه في رُبا ذاك الحمى
جدّد الوجد وهاج الحزنا
كلّما طرّز أثواب الدُّجى
نسجه ألبسني ثوب الضنى

وهي قصيدة من ستة عشر ومائة بيت، من أبياتها نقتطف:
وبوادي طيبة لي حاجة
قد غدا قلبي بها مُرتهنا
حاجةٌ من لي بها إذ أصبحت
هي في النفس المنى كل المنى
يا مذيدين المطايا غُوّصاً
في سراب البيد تجفو العَطَنا
وإذا ما السير قد جدَّ بها
في ظلام الليل تحكي السُّفُنا
قدّموا حب رسول الله بل
في رضاه يرتضون المحنا

ويحوي الديوان خمسة قصائد للشاعر، وتشطير تسع قصائد، وتخميس قصيدة "فؤادي بربع الظاعنين أسير" ، وأشهر القصائد المشطرة قصيدة ألفا هاشم الفلاتي المهملة والتي مطلعها:
ألا واصل الله السلام المُردَّدا
لأكرم رسل الله طرا، وأسعدا
وأوسع آلاءً وكمّل طوله
لأوسع كل الرسل سعْداً وأحمدا

وهي قصيدة من أربعة وعشرين بيتاً ليس بها حرف به نقطة، أي أنها مقتصرة على أربعة عشر حرفا من حروف الهجاء.
على هامش المطالعة:
الطبعة التي بأيدينا طبعت عام 1359 من الهجرة (أي قبل أكثر من ستين عاما) وهي الطبعة الثانية، بواسطة شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر؛ والمجموعة تحتاج الى جهد في التحقيق وشرح الكلمات الصعبة والمعاني. ونطمع أيضا في أن نرى بقية مؤلفات الشيخ في العلوم الشرعية، والتي ذكر أنها تصل الى الثلاثين مؤلفا، يمكن بفضلها معرفة مستوى العلم لدى علماء ذلك الزمان، وتثري المكتبة السودانية.
تطرقت المجموعة الى بعض النقاط في بعض مسائل العلوم الشرعية مثل قوله ردا على المعتزلة والفلاسفة (تالله لا خلاف في أن الاسراء بالجسم الشريف عند المحققين، وقد جزموا أن المعراج كان به أيضاً عند كُمَّل العارفين) ، ولا شك أنه قد أصاب وأحسن في هذه الكلمة، الا أن المجموعة تحوي أيضا ما يوجب مراجعته، مثل قوله في بداية قصيدة صببت دموعا (أخبرني الهاتف أن البداءة بهذه الكيفية جالبة لروحانية النبي صلى الله عليه وسلم ومدخلة في شفاعته) ؟؟؟! كما يلاحظ تركيز المجموعة (وخاصة في الموالد) على أنه لولا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خلق الله الخلق، وما خلق الجنة والنار، وأنه صلى الله عليه وسلم هو أول الخلق؛ وهو وما يحسن أن يكون من جملة أعمال التحقيق ويا حبذا لو انبرى له جهد أحد علماء أبناء المجاذيب.






الجمعة، 6 فبراير 2009

العلمانيون والقرآن الكريم: (واستغشوا ثيابهم)!
إذا كانت أسلحتك هزيلة ولا تقوى على منازلة خصمك المدجج بأعتى الأسلحة والقادرة على حسم المعركة في لحظات، فإن أذكى طريقة لجعل المعركة متكافئة بحيث يكون احتمال فوزك فيها كبيراً هو أن تحاول تحويل المعركة إلى مصارعة حرة بدون استخدام أي سلاح سوى الاعتماد على القوة الجسدية للمصارع، وامكانيات (الحرفة) على الخصم، وهذا بالضبط ما يفعله العلمانيون في معاركهم الجدلية مع الإسلاميين.
الإسلاميون يملكون سلاحاً قوياً له قدسية عظيمة في قلوب الجماهير المشاهدة لهذه المعركة..يستطيع هذا السلاح أن يفكك المشروع العلماني ويرميه إلى مقبرة أو مزبلة التاريخ بصربات قاضية لا تبقي ولا تذر..هذا السلاح هو القرآن الكريم؛ آيات الله وكلامه التي لا مبدّل لها ( وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم)، ولهذا يدأب العلمانيون دائماً على فك الارتباط (بين محاورهم والقرآن) بحيث لا ينفعه استخدام آية من كلام الله عز وجل في حواره أو إسناد حجته. ويتوسلون لذلك بعدة وسائل منها:(رفضهم المباشر للاستدلال بالقرآن الكريم) لأن من يستدل بآية من القرآن –كما في وجهة نظرهم- فإنه يمارس إرهاباً فكرياً.
أرأيتم ضعف الحجة وخورها؟!..إن من يقول ذلك فإنه يعلن صراحة قوة سلاحك الذي أرهبه، ويقرُّ تماماً بهرزيمته أمام هذا السلاح، ولكنه يقولها كما قالها الأولون (لاتسمعوا لهذا القرآن).
وأذكى من هؤلاء من يرفضون الاستدلال بالقرآن بحجة أن القرآن كتاب مقدس ..كتاب عظيم..ونحن بشر مدنسون بالذنوب، لا ينبغي لنا أن نهبط بهذا الكتاب العظيم المقدس إلى منزلتنا ونخوض به في خضم السياسة!..والسياسة كما هو معلوم (لعبة قذرة)!.
سبحان الله!..إذا كان ذلك كذلك، فما معنى أن يكون القرآن الكريم كتاباً مقدساً؟!..ألم يكن الله سبحانه يعلم أن البشر خطاءون ومذنبون؟!..ولماذا أنزله عزَّ وجل؟!..أليس لتطهيرهم وتزكيتهم بهذا القرآن عندما يطبقونه ويعملون بأحكامه؟!.
وإذا تقدم هؤلاء العلمانيون خطوة وتركوك تستدل بآية، فإنهم يعودون ليفرغوها من أي معنى بنظريتهم في (نسبية الحق)..وبالتالي نسبية (تفسير الآية)!..أي إن كل إنسان له الحق في فهمها بطريقة تختلف عن الآخر لأن كل إنسان له عقل يختلف عن الآخر!.
هذه الحجة ينكرها العقل نفسه، لأن كل العقول قد أقرت وأجمعت على مسائل لا مجال لإنكارها في كل العلوم..سواء في الفيزياء و الطب أو الهندسة أو غيرها..فلماذا لا يتفقون على فهم محكم من القرآن؟!..وهذه الحجة الأخيرة من حجج العلمانية تعطي مثالاً واضحاً لللغو في القرآن الكريم، كما جاء في قوله تعالى : (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون)..قال القرطبي في معنى اللغو : (ما لا يعلم له حقيقة ولا تحصيل).
ولكن ليبشر العلمانيون أنه لن تكون الغلبة إلا للحق (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).

السبت، 24 يناير 2009

نقوش من قصة بنت السودان المسروقة......
أين بختك* يا بخيتة؟
نقش على الرخام....
إيطاليا، مدينة اسكيو، مقبرة الراهبات الكانوسيات، لوحة رخامية على قبر من القبور الكثيرة المتناثرة هنا وهناك، منقوش عليها:
" ماريا جوزفينا بخيتة، 1869- 1947 انتقلت من عبودية الناس إلى حرية أبناء الله، عاشت معموديتها إلى درجة الكمال بين بنات مادالينا كانوسا، مؤسسة رهبنة الكانوسيات، وحققت التطويبات الإنجيلية في تكريسها لله، إنها في ديار الطوباويين، تحرص على كنيسة أفريقيا الناشئة".
بخيتة؟!؟ ...نعم بخيتة! سودانية من دارفور، كتبت قصتها –والعهدة على الكنيسة- ووزعت في مطلع التسعينات، والكتاب المكتوب باللغة العربية يحوي 38 صفحة، يحكي قصتها وتنقلها من دارفور إلى الخرطوم إلى إيطاليا، يصور بشاعة تجار الرقيق الذين اختطفوا هذه الطفلة من بين أحضان أسرتها، سرقوها، وعذبوها وباعوها.
يقص الكتاب حكاية بخيتة الدارفورية أواخر سنوات الحكم التركي، قبيل قيام الثورة المهدية، والمآسي التي تعرضت لها بخيتة في طريقها من دارفور إلى الأبيض، حيث يعامل الرقيق أسوأ أنواع المعاملة، إلى أن وصلت إلى بيت رئيس مدينة الأبيض، ثم اشتراها قائد تركي، لتعامل معاملة "وحشية" قاسية لا تظهر فيها علامة للعطف ولا للرحمة، لا يتناولون إلا وجبتين، ولا ينامون إلا على الأرض!
وبعد ثلاثة صفحات من قصص المآسي في بيت القائد التركي تنتقل بخيتة إلى الخرطوم ليتم بيعها إلى القنصل الإيطالي، لتبدأ مرحلة جديدة في حياة بخيتة، تقول هي عنها: " هذه المرة كنت بخيتة بأفضل المعاني إذ كان سيدي الجديد رجلا طيبا، وعاملني معاملة إنسانية لطيفة". ثم تنتقل معه إلى إيطاليا، وهناك تكون لها سيدة جديدة ، تدخلها إلى مدرسة طلاب المعمودية لتنال التعليم المسيحي الأساسي، تقول بخيتة عن هذه المدرسة: " وهناك عينوا لي إحدى الراهبات لتعتني بي وبالطفلة التي معي، فتعلمنا مبادئ الدين المسيحي، ولا أستطيع ألا أتذكر تلك الراهبة التي اسمها الأخت ماريا فبريتي دون أن أذرف دموعي لكل ما بذلت من اهتمام بي" ومن ثم عُمِّدت فتاة السودان في الديانة المسيحية وعمرها واحد وعشرون عاما، ثم صارت راهبة بعدها بسنوات ست، كأول فتاة "سوداء" دخلت رهبنة الكانوسيات. بعد ذلك بأعوام دخلت بخيتة دائرة الإعلام في إيطاليا، وصدر تأريخ حياتها في حلقات متتالية في إحدى المجلات، ثم بشكل كتاب عنوانه: "قصة عجيبة" فاشتهرت قصتها، ووقفت الراهبة السودانية على المسارح تحكي للناس عجائب هذه القصة. وظلت الراهبة السودانية تنتقل من كنيسة إلى دير، تخدم دينها الجديد، إلى أن انتقلت إلى الدار الآخرة، وآخر كلماتها: " إنني مبسوطة الآن...العذراء...." وذلك في عام 1947.
نقش على كف (المسيح)..!
لا شك أن الكنيسة العالمية طارت فرحا بهذا التحول الكبير في حياة بنت السودان، التي رسم لها عبر تجارة الرقيق مصيرا مختلفا عن قريناتها، وصارت بذلك رمزا عند الكنيسة للتحول المنشود لكل السودان، بل وكل إفريقيا؛ وكانت زيارة البابا في العاشر من فبراير 1993 تعبيرا عن هذه الفرحة التي لم تتناقص عبر العقود، يقول المطران قبريال زبير واكو، رئيس الأساقفة في الخرطوم، في كلمته المرحبة بزيارة البابا: "لقد جئتَ لتحتفل معنا بالعيد الأول على شرف الطوباوية بخيتة، تلك الأخت المتواضعة التي تركت أثرا كبيرا فينا جميعا. إن صمودها قد أدخل في حياة كل منا أملا جديدا وقوة متجددة. إننا نرحب بها في السودان لتبقى معنا رمزا للتحدي المستمر والإمتنان الحقيقي تجاه الرب وللأخ، التحدي الذي نواجهه بإستمرار في أدائنا لعملنا ومقابلتنا للعديد من المحتاجين والبائسين. إن انتمائها وروحها التبشيرية ستبقى معنا وتساعدنا في توسيع آفاقنا وتزودنا بطاقة جديدة لنشر المعرفة بالمسيح ورسالته للمحبة والسلام في هذا البلد الذي لا يعرف فيه المسيح جيدا". إذن فقد كانت بخيتة هي محور زيارة البابا، ولهذا فقد كانت كلمات البابا في الساحة الخضراء أمام الحشد المستمع والمحتفي بالزائر الكبير، مبشرة بهذا النموذج والذي يتطلع البابا أن يشمل كل القارة الإفريقية، يقول البابا: " إبتهجي يا أفريقيا، لأن بخيتة قد عادت لك اليوم، إبنة السودان التي بيعت رقيقا مثل سلعة تجارية حية، لكنها ظلت حرة مثل القديسين. الطوباوية جوزيفينة عادت إليك اليوم تحمل رسالة الإله الأب ورحمته اللامتناهية. إن البعض يظن أحيانا أن الرب تركنا، إلا أن الله يجيب على لسان نبيه العظيم (أتنسى المرأة رضيعها فلا ترحم إبن بطنها؟ حتى ولو نسيت النساء فأنا لن أنساك، هاأنذا على كفي قد نقشتك) (اشعبا 49 :15-16) نعم على كفي المسيح اللتين اخترقتهما المسامير، إسم كل واحد منكم منقوش على هاتين الكفين....إني أسال الله أن يبارك أسركم بشفاعة الطوباوية بخيتة".
نقش على العقول والقلوب....
هذه القصة المحزنة لبنت دارفور الحبيبة، تبعث بها الكنيسة العديد من الرسائل، كخطاب يبشر بالمسيحية وينفر من الإسلام، مستخدمة أساليب متعددة لتوصيل هذه الرسائل، تحاول الكنيسة من خلال هذه الرسائل أن تنقش على القلوب بإزميل العاطفة التي تنداح مع مأساة بخيتة، ومن ثم يسهل أن تتسلل إلى العقول المفاهيم النصرانية، ونستقرئ فيما يلي بعض هذه النقوشات:
· (المسيحية) دين الفطرة!
يقول الكتاب: (وإذا رغبنا أن نكتشف أعماق بخيتة لنتعرف بفطرتها، لوجدنا أنها مسيحية في طبيعتها منذ نعومة أظفارها، وقبل أن تطلع على مبادئ الدين المسيحي. لقد كانت تنظر إلى جمال المخلوقات التي حولها – الزهور والطيور ...الخ وتتساءل: فمن هو سيد هذه الأشياء) انتهى النقل. ونقول: كيف للبنت التي نشأت من أب وأم مسلمين، ولم تسمع صوت جرس الكنيسة، وإنما تتبعت بأذنها صوت الأذان، وضحك أهلها وهي تحاول محاكاته، ولكم رأت أباها وأمها وساجدين وراكعين فقلدتهم في صلاتهم، ولربما لعبت بلوح أخيها بعد حضوره من الخلوة، وجلست في حجر جدتها وهي تجلس في المصلاة ترفع كفيها بالدعاء، كيف لها، وبكل بساطة، ولأنها تتفكر في جمال المخلوقات، وتتساءل عن خالقها ان تكون مسيحية في طبيعتها ! سبحانك ربي!، وهل كل من يتفكر في جمال المخلوقات ويتساءل عن خالقها في الصغر، يكون مسيحيا بفطرته؟ إنه تخليط واضح، وسوق لمقدمات لا تؤدي للنتائج المستنبطة، بما لا يدع مجالا للشك بأنه تدليس مقصود.
· الإسلام المتوحش!
وجاء على لسان بخيتة: (كانت ابنة اللواء التركي تستمع إلى حديثي فأمرت بأن يضعوا سلسلة من حديد حول قدمي خشية من أن أحاول الهرب من ذلك البيت أيضا. وحملت تلك السلسلة لمدة شهر أو أكثر فرفعوها بمناسبة أحد الأعياد الإسلامية الكبرى، إذ كان على المسلمين أن يفكوا القيود من عبيدهم) انتهى النقل. والرسالة المسمومة التي يبعثها النص تقرأ في العبارة الأخيرة (إذ كان على المسلمين أن يفكوا القيود عن عبيدهم) إذ يوحي بأن جميع تلك الافاعيل التي حدثت، لا تتناقض مع الإسلام، والدليل أن المسلمين ملتزمين بتوجيهات الإسلام الذي أحسن إلى العبيد وفك قيودهم في العيد! إنها رسالة تطعن في الإسلام؛ وتصوره كدين متوحش يقر سرقة الأفراد وبيعهم ثم تعذيبهم، ولا يرحمهم إلا في الأعياد. ونؤكد هنا على الحقيقة المتمثلة في تاكيد الإسلام على شناعةالجرم الخطير، والإثم العظيم الذي يقع على من يسرق الناس والاطفال ، كما أبان الحديث القدسي عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال : "قال الله تعالى : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة : رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره" رواه البخاري. إنها ليست من المسائل التي ينافق فيها المسلم (المجتمع الدولي) برأي أو قول خلاف ما يبطنه، ولكنها مسالة مصيرية للمسلم، بكونها تجعل الفرد محاربا وخصما لرب العباد الذي خلقهم أحرارا، وعلى هذا كان سمت المؤمنين الصالحين الذين مدحهم الله تعالى بإحسانهم ورفقهم حتى بمن حاربوهم وقاتلوهم، ثم وقعوا أسارى بأيديهم، فأعطوهم من الطعام ما هم في حوجة إليه (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) (سورة الإنسان8-9)، هكذا كان المسلمون الذين التزموا بدينهم وساروا على هديه، واما من خرج على شرعة الله، من أجل لعاعة من الدنيا يصيبها من مال الخواجات، فإن الإسلام منه براء.
· خواجة.....أوكي، سوداني.... بطال!
تقول بخيتة: (غادرنا الخرطوم وكانت قافلتنا تتكون من القنصل وصديق له وشاب سوداني وأنا. سافرنا على ظهر الجمال عدة أيام إلى أن وصلنا سواكن.هناك بلغنا الخبر المؤسف بأن مدينة الخرطوم قد سقطت قبل شهر في أيدي عصابة من القراصنة افسدت كل ما وجدت فيها وسرقت جميع العبيد. لو تخلفت في الخرطوم لأصبحت أنا ايضا واحدة من الأسرى في أيدي العصابة ... وماذا بعد ؟ ... يارب ، اني أشكرك على انك اخرجتني من الخرطوم قبل سقوطها وخلصتني من المحن الأخرى) انتهى النقل. هذا النقل يمثل جزء من الجو العام الذي يشعر به من يقرا هذه القصة، إذ يمجد الخواجة باعتباره رسول الرحمة والسلام والعاطفة النبيلة، فتقول بخيتة بأنها كانت (بخيتة بأفضل المعاني) بعد أن اشتراها القنصل الإيطالي، ولكن لم يقتصر الأمر عند تمجيد الخواجة، بل استطال إلى تشويه وتقبيح صورة الثوار السودانيين ، انصار الإمام المهدي فصاروا مجرد عصابة، تسرق العبيد! وهذا النهج من الدجل والطمس والإفك، لم يتوقف عند ذلك الزمان، إذ ما يزال مركز الدراسات السودانية بجامعة درم (جامعة بريطانية)، يعرض وثيقة وضعت على الطاولة الرئيسية للمكتبة، ليشاهدها الزوار تبرز بدورها محرر السودان الإمام المهدي باعتباره "فقيه يشرف على عقود بيع الرقيق"! (الكرنكي، صحيفة الأحداث السودانية، 1/4/2008) .
ونستميح القارئ الكريم أن نسترسل هنا قليلا، لنعرف الحقائق المجردة، ونتعرف على من كان يشجع تجارة الرقيق، ومن كان يتخذ السياسات التي تعزز هذه التجارة، وبالمقابل، من الذي عمل على تجفيف تجارة الرقيق، بسياسات تؤدي إلى انهائها.
من المعلوم أن الذي كان يحكم السودان عند فتح الخرطوم بواسطة جيش المهدي، هو غردون باشا، وكان ممن عينهم حكاما على السودان روملو جسي حاكما على كردفان، فرانك ليتون حاكما لبحر الغزال، وجيقلر مفتشا للبريد والبرق، ورودلف سلاطين حاكما لدارفور؛ وكما يبدو من هذه الأسماء، وغيرهم من أصحاب الجنسيات الأوربية التي تضم الفرنسي والنمساوي والإيطالي والألماني، فإن البلاد التي كانت محكومة بالاتراك قد دخلت مرحلة جديدة يصفها المؤرخ السوداني ضرار صالح ضرار بقوله :( وباستخدام هؤلاء الأوربيين دخل السودان مرحلة حرجة لأن هؤلاء الإداريين كانوا من المسيحيين الذين كانوا يهدفون إلى ابتلاع كل البلاد الإسلامية منذ الحروب الصليبية، وشعر السودانيون أن الدول المسيحية قد تألبت عليهم وأرسلت هؤلاء الإداريين لطعن اسلامهم، وكان لصرامة الإجراءات التي اتخذت ضدهم ما جعلهم يحقدون على الاتراك المصريين الذين جلبوا لهم الكفر الأوربي) (ضرار، تأريخ السودان الحديث، ص92). ولم يكن شعور السودانيين هذا متولدا من الفراغ، ولا وهما ولا توجسا، بل كانت أفعال واقوال هؤلاء الحكام الغربيين دليلا دامغا لصدق هذا الشعور، فمثلا يقول صمويل بيكر، المعروف برحلاته الاستكشافية لمنابع النيل: ( إن اهتمامي الرئيسي هوالعمل لمصلحة مصر وأن أويد وأعضد في ذات الوقت نفوذ بريطانيا. وكان دافع الجنرال غردون الذي خلفني هو نفس الدافع، وقد توفى وهو على امل أن تستولى بريطانيا على الخرطوم). (سيرجي سمرنوف، دولة المهدية من وجهة نظر مؤرخ سوفيتي، ص12). وقد يتحدث متحدث عن دور غردون باشا في محاربة الرقيق، وكيف أن إنهاء تجارة الرقيق كانت الهدف الأعظم له إبان حكمه للبلاد، ولكن يأتي السؤال: كيف كانت هذه الحرب ضد هذه التجارة، وما هي نتيجتها؟ نعود للمؤرخ السوداني ضرار صالح ضرار الذي يتحدث عن فترة غردون (.... وكان أسوأ ما يفعل غردون هو أنه بعد مصادرة قوافل الرقيق يتخذ من الرجال جنودا، أما النساء و الأطفال فكان لا يعرف ما يصنع بهم، وكان يهدي بعض الصبيان لبعض الرحالة الأوربيين. وكان يضطر أحيانا لبيع الأطفال والنساء خارج البلاد فاشترك هو نفسه في هذه التجارة المحرمة)! ( تأريخ السودان الحديث، ص 94).
لقد كثرت وتعددت زرائب وكبانيات تجارة الرقيق في غابات بحر الغزال، وإذا سألنا عن كبار تجار الرقيق، العاملين في هذه التجارة الشنيعة، لأتانا الجواب من المؤرخ نعوم شقير بـأنه: ( كان التجار الأوربيين هم الرواد الأوائل لتلك الزرائب والكبانيات وقد اكتظت بما اكتنزته داخلها من أطنان العاج الأبيض من سن الفيل، والعاج الأسود من الأجساد البشرية، وتضخمت أسماء أصحابها أمثال أمابيل ودي، بونو وملزاك، ثم تلاهم الأقباط والمصريون ومنهم غطاس الذي سميت بلدة جور غطاس باسمه وقناوي صاحب زريبة جور كيانقو، وأبوعموري صاحب مشروع الرق) (نقلا عن عصمت زلفو، الخليفة، ص31)، ويعلق المؤرخ الضليع زلفو قائلا: ( كان البحارة والجلابة، كما أطلق على التجار ومعاونيهم من قبائل السودان الشمالية، في ذيل القائمة. ولكنهم تصدروها بقدرة قادر حين توجهت نحوهم آلة الدعاية الأوربية ومن خلفها جمعية محاربة الرق، فنصب الأوربيون أنفسهم آلهة لتنظيم شئون العباد، ونقلهم إلى مشارف الحضارة المسيحية مهما كان الثمن، حتى لو كان بالإبادة.
ولم تكن هناك ذريعة أفضل لاستلاب القارة العذراء من دعوى محاربة الرق. ومحظوظ ذلك الذي وضع يده على تلك الذريعة فآخرون ممن لم تسعفهم الحيلة كشفوا عن وجه العدوان بلا مواربة، ولم يترددوا لحظة واحدة في تحطيم ممالك الزولو والأشانتي وحصد صفوف الإمبيز بنيران الرشاشات وهم يزودون عن أراضيهم أمام أطماع شركة سيسل رودس) (الخليفة ص32).
هذا هو موقف الخواجة الحقيقي من موضوع الرق، ولم يكن لبخيتة المسكينة أن تسرق من أهلها، وتباع بواسطة هؤلاء المجرمين، لو لم يكن هؤلاء المجرمين يعلمون مسبقا بالثمن الجزيل الذي سيتلقونه من الخواجة، المتمثل في هذه الحالة في القنصل الإيطالي والذي حسبت بخيتة بأنها كانت معه (بخيتة بأفضل المعاني)! مسكينة يابخيتة، فقد كنت صغيرة فسهل لهم أن يخدعوك!
عندما قامت الثورة المهدية (عصابة القراصنة)! وجدت أن الرق كان سائدا وضاربا بأطنابه في البلاد، وقد أبان الأستاذ محمد ابراهيم نقد – سكرتير الحزب الشيوعي السوداني- في كتابه: علاقات الرق في المجتمع السوداني، موقف المهدية من هذه الوضع، ونستشف من خلال الوثائق التي وردت في الكتاب، كما أوضحت الأستاذة رباح الصادق، أن ما أضفته المهدية على الوضع القائم كان تعاملا واقعيا، عادلا، لا تهور فيه ولا شطط، فقد قامت بمنع تصدير الرقيق للخارج، وتفادي فتح جبهة غزوات عسكرية لصيد الرقيق في الجنوب والجنوب الغربي، كما قامت بالتوثيق لحركة الرقيق ولتجارتهم بشكل صارم ودقيق وتركيز هذه التجارة في أمدرمان، ومنع الإتجار في خارجها من الأقاليم، وتعتبر هذه السياسات وغيرها من الإجراءات التي سلكتها الإدارة المهدية، إجراءات تتسم بالحنكة والواقعية، وقد تحدث نقد نفسه عن تأثير هذه الإجراءات فقال: ( كان منع الصادر يعني ضمنا الحد من الإتجار الداخلي في الرقيق) وأن هذا الإجراء ( مع إجراءات أخرى اقتضتها الأستراتيجية العسكرية للمهدية، مثل تجنيد الرقيق في جهادية المهدية، ووعد المهدي للأرقاء بالعتق إن التحقوا بالجهادية، ووعد الدولة المهدية للملاك بالتعويض عن أرقائهم المجندين في الجهادية – وحالت ظروف المهدية المالية عن الوفاء بالوعد- أسهمت مجتمعة في الحد من تجارة الرقيق بالحجم والمدى الذي كانت عليه في التركية) ( نقلا عن: رحاب الصادق، صحيفة أجراس الحرية السودانية، العدد 196)، ولا نريد أن نخوض أكثر في موقف المهدية من تجارة الرقيق ، ففي مقال الأستاذة رباح الكفاية، وقد أبانت بموضوعية وبالوثائق التأريخية محاربة المهدية الشجاعة لهذه التجارة.
بخيتة الإيطالية وبخيت الفرنسي!
تفتح قصة بخيتة المخدوعة والمسروقة إلى إيطاليا، ملف الأطفال المسروقين من دارفور وعبر تشاد إلى فرنسا، وهي قصة الفضيحة الشهيرة التي كانت قبل عدة أشهر، والتي أثبتت تورط الغرب – حامي حقوق الإنسان!- في واحدة من أفظع الجرائم الإنسانية: بيع الحر وأكل ثمنه، تفتح هذه القصة هذا الملف حتى نفتح أعيننا لما تقوم به المنظمات (الإنسانية) في بلادنا على طولها وعرضها، وخاصة في دارفور الحبيبة، حتى لا نسمع بعد سنوات ببخيت الفرنسي وزيارة البابا على شرف ذكراه!
*هامش: جاء في لسان العرب: البَخْتُ: الجَدُّ، ورجل بخيتٌ: ذو جَدٍّ؛ قال ابن دريد: ولا أَحسبها فصيحة والجَدُّ: البَخْتُ والحَِظْوَةُ. والجَدُّ: الحظ والرزق؛ يقال: فلان ذو جَدٍّ في كذا أَي ذو حظ.
محمد عمر البشيرmomomer77@gmail
واحد وعشرون عاما من التضحية والبطولة والفداء....
أحبك يا حماس
(1)
"لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حوله، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرهم من خذلهم، ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة. " حديث صحيح (الطبراني)
(2)
" كل ما يجيء به العلم الحديث لا يكفي وحده لكسب الحرب، ولن تكون الكلمة الأخيرة للدبابة ولا للمدفع ولا للطائرة المقاتلة، إنما تكون للإنسان الذي يسخر هذه الوسائط لإرادته" بن جوريون 1949
****
لو أردنا أن نختزل معنى كلمة (رجولة)، أو نشرح معنى كلمة (عزة)، أو أن نفسر ما معنى (الكرامة)، أو إذا أردنا أن نقرب معنى كلمة (شجاعة)، فإن ما يجمع هذه المعاني جميعاً أن نقول أنها: حركة المقاومة الإسلامية "حماس". فهي ما تبقى لنا من أمل، وما يشع لنا من نور، وما ينبض في قلبنا من روح، يحق فيها، وفي أبطالها قول القائل:
كضيا البدر وأجمل
فارس لا يترجل
شق صدر الليل لما
جثم الذل واسدل
يمتطي الأهوال دوماً
ولجوف الخوف يرحل
لا يرى المتعة إلا
في جهاد يتنقل
هو عملاق كأعلى
قمم الدنيا واطول.
يسجل التأريخ في 8/12/1987 ميلاد حماس، باجتماع ثلة من المؤمنين في غزة على خير ما يجتمع عليه الرجال، عزيمة على الخير والرشد: الشيخ أحمد يس، الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، الأستاذ عبدالفتاح دخان، الأستاذ ابراهيم اليازوري، الشيخ محمد شمعة، وعيسى النشار، لتكون انطلاقة أكبر حركة مقاومة في التأريخ المعاصر، ولسان حالهم يقول:
سنعيد ما عبق القصيد بذكره
لن نرتخي همماً، نلوذ رقادا
نحن الذين سنسرج القنديل...
نَقْدح جذوة... تسقي رُباً ووهادا
أحبك يا حماس: وأنت تشفين صدورنا من يهود وتذهبين غيظ قلوبنا منهم، وتغسلين بدمائهم شيئا من عار قعودنا عن مسرى رسولنا صلى الله عليه وسلم، أحبك، وانت تنتزعين حتى من أعدائك الإعجاب حتى يصرح جنرالهم المتقاعد يوحنا تصوريف: (هاكم على سبيل المثال حركة حماس، فلو تتبعنا تصريحات وتطمينات قادة جيشنا فإن هذه الحركة من المفترض أن تكون قد غابت عن الوجود، لأن الجيش لم يترك أي عنصر من حماس إلا واعتقله، ومن استطاع أن يغتاله لم يقصر في ذلك، لكننا نفاجأ بأن حماس قد فاجأت الجميع بقدرتها على مواصلة المقاومة بشكل يثير الإعجاب).
أحبك يا حماس: وأنت تجريعهم من الخوف والرعب غصصا، وتصليهم جحيما لا وقاية لهم منه ولا مهرب، كيف ويهود يهابون الموت، كما يحب أبطالك القساميون الشهادة، يسمعون نداء إيمانهم لهم:
أطلق دماءك كالرصاص على العِدا
إياك ان تتوقف الطلقات
مت.. مت ولا تقنع بألفي ميتة
فالموت في شأن الإله حياة
قدماك ما خلقت لمشي إنما
خلقت لتسحق تحتها الشهوات
دسها.. تقدم.. وانطح الخطر الذي
يخشى ثباتك، فالحياة ثبات.
أحبك يا حماس: وأنت تمارسين السياسة.... ليست لعبة قذرة كما يسمونها، وإنما ممارسة، أصدق ما توصف به كلمات لقيط بن يَعْمر:
لا مُترفا إن رخاء العيش داخله
ولا إذا عض مكروه به جَزَعا
مُسهَّد النوم، تعنيه أموركمو
يروم منها إلى الاعداء مطلعا
ما انفك يحلب هذا الدهر أشطره
يكون مُتبِعا يوما، ومتَبعا
لا يطعم النوم إلا ريث يحفزه
هم، تكاد حشاه تحطم الضلعا
حتى استمرت على شذر مريرته
مستحكم الرأي، لا قَحْما، ولا جَزِعا
تعرفين الطريق:(إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون)، وتحملين الراية واضحة لا غبش فيها:(إن الله اشترى من المؤمنين اموالهم وانفسهم بأن لهم الجنة...)
أحبك يا حماس:وأنت على ذات الدرب تضمدين جراح المكلومين، وتمسحين دموع الأرامل، وتعيدين البسمة لشفاه اليتامى والمشردين، يقول الصهيوني دان شبطان من مركز دراسات الأمن في حيفا:(إن حركة حماس ترتكز على درجو عالية من القوة بفعل تعاطف الشعب الفلسطيني معها، الذي منحها درجة كبيرة من المناعة، لأن حماس تمثل شبكة مؤسسات إغاثة إجتماعية أخذت تمد الناس بالأدوية والعلاج الطبي وتوفر المؤسسات التربوية والرياضية.)
أحبك يا حماس: وأنت تنطلقين من المحراب، بلسان رطب بذكر الله، وقلب مطمئن بحب الله، وجوارح تربت أول ما تربت على طاعة الله، يقول الدكتور الشهيد عبد العزيز الرنتيسي:( إننا في حماس نمتلك برنامجا تربويا متكاملا يبدأ مع الشباب من مختلف أعمارهم، وأول عناصر هذا البرنامج: القرآن الكريم حفظاً وتفسيرا، وكتب السيرة النبوية، والدراسات الإسلامية، اضافة إلى الكتب الحركية التي ترسم لهم الخطوات التي يجب اتباعها فتقولبهم قولبة أخلاقية تتمشى مع القيم والمفاهيم الإسلامية، وفي مقدمتها: العزة والإباء والكرامة، بالاضافة إلى جميع الأخلاق الحميدة)
أحبك يا حماس احبك، ولو كان بيدي، لأهديتك قلبي قائلا:
خذوا قلبا تحجر كالحديد
خذوه وارجموا كل اليهود
أو لأعطيتك يديَّ، منشدا:
خذوا مني اليدين لعلّ كسراً
يعيق يدي فدائي فريد
أو عيوني، ولا تغلى –والله- عليك:
خذوا عينيّ علّ فتىً أغراً
غدا أعمى فيبصر من جديد.
حماس: أحبك واعجب ممن لا يحبك، وفيك من يخاطب نفسه فيقول:
أنا لن أبيت منكسا للألمع
وعلى الزناد يبيت دوما أصبعي
ولئن كرهتِ البذل، نفسي، تصفعي
من كل خوار ومحتال دعي
وإذا بذلت الغال: مجداً تصنعي[*]
فتجيبه نفسه قائلة:
إني استعيذك ان تذل إلى وثن
أو أن يعود السيف في غمد الجراب
فاقض الحياة كما تحب فلا ولن
أرضى حياة لا تظللها الحراب
حماس: أحبك... أحبك ... أحبك.


[*] الأبيات للشهيد عبد العزيز الرنتيسي، رحمه الله.